الأربعاء، 5 يناير 2011

سورة القصص .. مقدمة


بسم الله الرحمن الرحيم ..
بسم الله .. التي لا يجوز إلا أن يبدأ بها كل عمل ذي بال .. فكيف والبال يعصر تركيزه .. والبال يجمع فتاته ويلملم شتاته ليدلف إلي كتاب الله ..
كيف والبال يسعي للخلاص من الهم والقلق .. فلا يجد إلا في القرآن مهرباً وملاذاً ..
كيف والبال يتخير عند كل موقف وعند كل حالة من بستان القرآن زهرة يبدد عبيرها نتن المادية .. ويحيل اكسيرها عفن التصورات جناناً ..

لماذا القصص .. ولماذا الآن ..
نصيحة لكل حائر .. لكل من طوقته الهموم .. لكل من ضاعت بوصلته .. وتاه منه المقصد .. وهرب منه المآل .. لكل من تخلف وراء الركب .. وغاصت راحلته ونفد منه الزاد ..واصبح يتلفت حوله يتلمس ظلاً .. يتلمس كسرة خبز.. يتلمس نوراً يهتدي به في ظلمات التوهة ..
نصيحة لمن أراد أن يفقه الخطة الربانية العامة للحياة .. لمن أراد أن يقرأ في السيرة الذاتية للعظماء يتلمس عبرة وهدي ..
نصيحة أن يدلف إلي السير التي رسمها الله بيده .. سيرة كاملة من المولد للنجاح ..
هناك سيرتين في كتاب الله .. سيرة يوسف الصديق في سورة باسمه وللاسم مغزي .. وسيرة موسي الكليم في سورة القصص ووللاسم دلالة ..
هي لم تسم سورة موسي .. لأنه لم يكن من البدء نبياً .. ولم يكن لموسي اشارة نبوة واضحه تخبره بأن هناك ما ينتظره .. كما كان ليوسف .
بل لم يكن موسي قبل النبوة واضح العقيدة كيوسف الصديق ابن يعقوب النبي حفيد ابراهيم الخليل ..
وإذا أردت أن تتحقق من ذاك فلتقرأ الآية التي تحيل السورتين وتربطهما معاً .. والتي تصف النبيين ونشاتهم ولا تختلف إلا في كلمة ..
تلك الكلمة وحدها تبين لك لماذا اختلفت التسمية في الحالتين ..
في سورة يوسف "فلما بلغ أشده أتيناه حكما وعلماً "
أما في سورة القصص "فلما بلغ أشده واستوي أتيناه حكماً وعلماً "
نعم موسي كان يحتاج إلي الاستواء .. موسي كان يحتاج إلي تدخل الأقدار لإزالة أي شوائب خلفتها التربية أو المجتمع أو غياب الوضوح الكامل للتصور ..
موسي الوليد تربي في بيت فرعون المتأله .. ويوسف الوليد تربي في بيت يعقوب النبي ..
لم يكن ينتظر يوسف لـتأتيه أنوار النبوة سوي البلوغ .. لم يكن ينقصه سوي الزمن .,. فقط مزيداً من الوقت ..
أما موسي .. فقد كان ينتظره الكثير .. ينتظره تمحيص .. وتمحيص .. ليس مجرد الزمن ..
لذا يلقي يوسف في السجن فيوسف سيحتمل .. أما موسي فيتم تهريبه بالعناية القدسية ليلقي في رحاب الرجل الصالح الذي يقال هو شعيب نفسه ليتم تربوياته .. يلقي عشر سنوات في الصحراء ليستوي ..

لذا فقصة موسي أكثر عمومية .. أكثر بشرية .. أكثر قرباً من الاعتيادية البشرية .. لذا سميت علي عمومها القصص ..
وما يميز قصة موسي عن قصة يوسف أن قصة موسي قصة أمة بأكملها ... وقصة الصراع الكامل بين قوي الحق  والباطل .. قصة متعددة الأبعاد ..متراكبة العظة .. متداخلة العبر والأهداف .. لذا كان يلائمها أكثر عنوان القصص .. أكثر من أن تسمي سورة موسي ..
أما قصة يوسف فهي تغوص في العمق الداخلي تغوص في أبعاد ذاتية .. تضرب علي أوتار حميمة .. كالحسد .. والشهوة ..

سبحان من أبدع التصوير القصصي  ولم يحرم عباده من لذة القصة والرواية .. فأعطي لنا مثالا علي القصة العامة متعددة الأبعاد .. والقصة النفسية الشخصية العميقة المتمركزة حول الإنسان ..

لماذا القصص الآن ..
فقط لأني احتاج إليها الآن بالذات ..
فهي تحمل إجابات عدة .. حول تحقيق الذات .. حول التحديات .. حول الفرصة الثانية .. حول الخطيئة .. والخروج من ظلمة الخطأ إلي لامتناهية الصفاء .. حول الذات والتعامل مع اشكالية اللإفتتان بالنفس .. حول المرأة والزواج .. حول الصبر واليقين .. حول القدر والعناية .. حول الحكمة الخفية .. حول المعاناة ..
هي إجابات احتاج إليها الآن .. ويحتاج إليها كل من يقبل علي الحياة العملية أو الزواج .. بل كل من يطمح إلي تغيير حياته ..
إلي كل من يسعي إلي فرصة ثانية ..
إلي كل من لا يستطيع رؤية معني لحياته .. إلي كل من يشعر بالخواء .. والفراغ النفسي .. ويحتاج إلي أن يمسك بين يديه معني .. غاية ما ..  يحتاج أن يصل إلي حقيقة كينونته ..

إلي كل من أخذته الدنيا .. حتي استيقظ يوماً فلم يعرف من هو .. ولم يدرك ماهيته .. لم يلمس حقيقته .. إلي كل من شعر للحظات _وأحيانا لسنوات _ أنه قد تاه عن نفسه .. وفقد روحه ..  


طسم ..
الطواسين ثلاثة .. القصص ثالثتهما ..
طسم الشعراء .. وطس النمل .. وطسم القصص...

الطواسين .. ما يميزها أن لها علاقة وطيدة بالقصة القرآنية .. وتتميز بأسلوب السرد والحكاية ..
الطواسين ما يميزها .. أنها لا تمهد للقصة بل تدلف إلي القصة من أول السورة ..
طسم الشعراء .. تمر بأسلوب السرد السريع .. كنوع من الحكي الوثائقي الذي يتصفح التاريخ البشري .. وتاريخ الصراع النبوي الظلامي بصفحاته .. في أسلوب سريع يعتمد علي التماثلية .. ليحيك في الذهن قصة النبوات مترابطة .. فالرسالة واحدة والمصدر واحد .. بل والشر أيضا واحد والشيطان واحد وإن تعددت الصور والحجج الواهية لمقاومة النور ..
في مقاطع كثيرة .. تذكرك بأبيات الشعر وأشطاره .. لذا فلا عجب حين تسمي الشعراء .. وآخرها يقنن حدود الفن الإبداعي باسره .. بعدما خلب الأذهان بموسيقي رائعة .. اصبح قول الشعر جوارها ضرباً من النزق ...

ثم طس النمل .. ترحل بنا في مملكة عجائبية .. مملكة خارج القوانين الطبيعية .. مملكة لا منطقية .. غرائبية ... مملكة سليمان النبي . لذا فلا عجب أن يكون قول نملة هو اسم السورة بأكملها .. اشارة إلي ذلك العالم العجيب الذي تحويه تلك السورة ..
وسبحان الملك القدوس وتامل تلك الوحدة النفسية بين السور القرآنية .. فسورة النمل تلك بعجائبيتها .. تنتهي بذكر الدابة التي تكلم الناس في آخر الزمان .. والجبال التي تسير كالسحب .. وكأنك تري ذاك العالم العجيب .. اللامنطقي تحملك إليه السورة منذ عنوانها ومطلعها إلي قصصها (الهدهد الداعية .. مملكة وإمرأة .. عرش يسير عبر الزمن .. قصر بأرضية من عجائبية صنعها تسلم له ملكة ) ثم الدابة وحقيقة سير الجبال ..

ثم طسم القصص .. وهي القصة الطويلة .. متعددة المراحل .. تري فيها نمو الشخصية في أجمل صوره .. تراها حينا بطيئة الإيقاع للغاية .. حين يصف لك مسيرة موسي في السوق ثم رحلته خارج مصر .. ويتسارع الإيقاع بقوة في مدين .. ليتباطأ ثانية حين مشهد الوحي والنار واللقاء بطوي .. ويتسارع في مشاهد الصراع .. ليصل لي ذروة التسارع في المشهد الأخير مع فرعون .. ليخبرك أنه ليست النهاية هي المقصود والعبرة .. وإنما المسيرة .. الرحلة .. النمو .. الصيرورة ...
صفحات وصفحات وصفحات في مشاهد نمو موسي .. وبضع آيات للصراع الأخير ,.. وآيتين فقط للنهاية ..

حتي الإيقاع الزمني القرآني له غاية وهدف .. فهل من مدكر ..؟؟