الثلاثاء، 27 يونيو 2017

سؤال خواتيم البقرة

السؤال : آخر أيه في سوره البقره ربنا قال " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها " وهي سبقت دعاء المؤمنين " ربنا لا تحملنا مالاطاقة لنا به " اذا كان معلوم عدم تكليف الله النفس مالا طاقة لها به هل يكون الدعاء هكذا جائزا؟

الجواب :

وأجمل ما في القرآن أنه لا يحمل الترادف .. وأن لكل كلمة حمل معنوي مخصوص لا تقوم به كلمة أخرى
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها
والتكليف يأتي في سياق الحكم الشرعي
فالمعنى أن الله لا يطلب من انسان القيام بأمر شرعي إلا إن كان في وسعه
على طبقتين
 الأولى ان يكون في وسعه كجنس الإنسان فلا يكلفنا سبحانه في العموم في الدين إلا بما هو ممكن التطبيق ومتسق مع تكويننا الإنساني ولا يتعارض مع واقعنا البشري ولا يصطدم مع وجودنا الكوني
والطبقة الثانية .. علي مستوى الأفراد بخصوصية ونسبية أوضاعهم
فمن لايلائم أحدهم لا يلائم الآخر .. ولذا كانت الرخص واحكام الضرورات في إباحة المحذورات
والوسع .. هو التكوين النفسي والبدني الأصلي .. بمعني التركيبة والملابسات التي ينزل عليها التكليف ..
تلك اللفظة الأولى .. التكليف وهو الحكم الشرعي
والوسع .. وهو الملابسات والحيثيات ..
نأتي للفظة الثانية .. وهي دعاء المؤمنين اللاحق .. ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به
كنت لاتفق معك ان كانوا قد قالوا ربنا لا تكلفنا
انما قيلت لا تحملنا ..
والتحميل قد يأتي في سياق أمر القضاء والقدر ..
ويأتي كذلك في سياق ردة الفعل البشرية تجاهه ..
بمعني السلوك الانساني ..
وكأنه استغاثة للرب ألا يصيبنا البلاء أو عثرات السلوك ما لا نتحمله .. فنزل ونسقط .. أو نكفر ونجحد.. أو نتخبط ونهوي !
لذا تجده دوما مبنيا للمجهول في القرآن ومتعلقا بالسلوك لبشري كإستجابة ..
(وان تولوا فعليه ما حمل وعليكم ما حملتم )
(وان تدعو مثقلة إلي حملها لا يحمل منه شيء)
فالحمل هنا هو الطبقة الثانية بعد التكليف ..
والطاقة .. هي المدى الممكن من الصمود والمدي الممكن من تفعيل الامكانات الاصلية (الوسع)
الوسع هو الأصل الثابت ..
الطاقة هي الصيرورة ..
يعني ببساطة الوسع هو امكانات الميكنة الأصلية .. والطاقة هي الوقود اللي بيمشيها ..
فالطاقة هي الطبقة الثانية من (الوسع) !
الوسع لا ارادي .. ولا دخل لنا فيه .. لذا جعله الله حقيقة مقررة في الآية انه لن يكلف إلا بقدر الوسع ..
انما الطاقة هي استجابتنا البشرية للمواقف والبلاءات والاختبارات.. لذا جاءت في سياق الدعاء ..
وكأنه يقول امنحنا من الطاقة لنتحمل .. كما جعلت التكليف متسقا مع الوسع !
وبالتالي .. الجملتين متكاملتين ..
الأولى تقرير رباني لما لا يد لنا فيه لئلا يتخذها البعض حجة فيما نحن مأمورون فيه ..
والثانية .. دعاء للاعانة علي مانحن مأمورون به .. وطلبا للدعم أمام النوازل والاستجابات البشرية للأمور القدرية ..

ردا علي سؤال حول سورة الطارق

السؤال : خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب) … بحثت كثيرا عما يُريح فهمي تجاه تفسير هذه الأية وتقريبا قرأت الكثير عنها فلم أجد ما يُشبع عقلي .. فهل أجد لديك شيئا يا دكتور !!



الجواب : 


صدقت .. فكم الاختلاف في هذه الآيات عظيم ومتشعب ومنهم من خرج بها نحو تأويلات معقدة للغاية لتوافق ما يسمونه بالإعجاز العلمي .. ولكن دعنا نراها بدرجة أعمق من البساطة مستأنسين باللغة العربية لا التأويلات 


الىيات من سورة الطارق .. السورة القصيرة المكية التي تعمد إلي تقرير حقائق التوحيد وتتميز بالمقاطع القصيرة والدوي الصوتي الذي يؤهل النفس لتلقي حقيقة إيمانية 
لذا فغاسة السورة نفسانية حدسية ولا تخاطب بالأساس المنطقي والعقلاني في الذهن قدر مخاطبتها للبدهي والأولي والوجداني 

هي ليست مناظرة عقلية ولا مجادلة منطقية قدر ما هي رجة نفسية تشد الذهن والوجدان نحو البدهي الذي أغفله 

ومفتاح هذه السورة يكمن في بدايتها الغريبة 
لذا تجدها تبدأ بالحديث بقسم عجيب (والطارق) ثم تؤكد للمستمع أنه يجهل هذا المقسوم به .. ولا سبيل له لدرايته وكأنها تشير هنا إلي ذلك الوجدان لمجاوزة اللفظ نحو المعني .. 
ثم تستطرد ببيان ما هو المقسوم به (النجم الثاقب) في جملة اعتراضية وكأنها تريح ذهن الغافل الذي سيلتفت نحو المقسوم به ويغفل عن القسم نفسه والحقيقة التي ارادها الله بالقسم 

اتدري وكأني اقول لابني مثلا 
ورب (اسرافيل) لاعاقبنك إن لم تفعل كذا 
ثم التفت إليه مقرعا .. واسرافيل هو الملك الموكل بالنفخ في الصور
وكأني اشير إليه .. أن يتجاوز القسم نحو المقسوم عليه .. ولا تشغلنه اللفظة عن جوهر المطلوب من تواصلي معه اصلا !

لذ بدأت السورة بقسم غرائبي ثم بيان للمقسوم .. ثم عودة لجواب القسم الذي هو متعدد في هذه السورة وليس واحدا كما نظن 
فجواب القسم 
- ان كل نفس لما عليها حافظ 
وايضا 
- إنه علي رجعه لقادر !
وايضا 
-إنه لقول فصل !

اي أن السورة تقوم علي بيان قيومية الله علي الانسان وهو حي .. بالحفظ 
وقيوميته عليه ميتا .. بوجوب البعث والحشر !

وما أدراك ما الطارق أيتها النفس الغارقة في الجهالة .. والتي تحيا كونا لا تدرك كثير من ابعاده وخفاياه وخباياه 
ولكن اتمنعك جهالتك المعرفية تلك من تلقي الحكموالحكمة والمقسوم به مقررا كحقيقة إيمانية !

وكأنها تشير (وهل نحتاج للمعرفة حقا لنؤمن بالألوهية والبعث .. أم أن تلك الحقائق لها سبيل معرفي اخر يختلف عن الحواس ومحض جمع المعلومات !)

وذلك مناط السورة ومرتكزها والحقيقة التي ارادت باسلوبها وموسيقاها وفواصلها القصيرة واستغلاق الفاظها أن تبينها .. وكأنها تخاطب الوجدان من مدخله عبر خطاب تهويلي سريع 
تخدم فيه هذا التساؤل النفسي عبر شحن حالة السورة بالكلمات التي ولابد أن نختلف عليها ونتحير أمامها 
(الطارق) (الصلب) (الترائب) (تبلي السرائر (ذات الرجع )
!

ولكن رغم كل هذا الاستغلاق .. والرمزية .. لم يزل كل امرؤ منا يقرأ هذا البيان الرباني يدرك ببساطة ما المراد منه !
ويقع في وجدانه الحقائق المقسوم عليها .. لقيومية والحفظ والبعث 
ربما دون أن يفهمها .. وهو امر غير معتاد في سور القرآن التي تغازل العقل والمنطق كثيرا 
ليعلم الإنسان من طرف خفي أنه ربما هناك سبيل مغاير للإيمان 
(فيطرق) الإيمان ابوابا مغايرة للمعتاد .. و(تثقب) الحقائق العلوية جدران الاستفهام والتحير وترسخ في النفس من سبيل مختلف تماما !
وتلك غاية هذا القول الفصل ..
لم يكن غاية القرآن محض بيانات علمية أو أحكام تشريعية .. إنما كانت الغاية الأولي هي تقرير حقائق التوحيد ومقتضياتها ..
أن تتشرب النفس الإيمان . بكل وسائل المعرفة الممكنة ..
فحينا من بوابة العقل والفهم .. وحينا من بوابة الحدس والوجدان .. وحينا بإشارات للتأمل لتفعيل المدخل المادي وبوابة الحواس !

هو القرآن كل متكامل ونسق شامل يخدم ذاك المراد بتعددية مذهلة للوسائل !






نأتي للآية التي سألتني عنها يا حبيب ..

تبدأ المقطوعة القرآنية هنا .. بالحديث عن الإنسان .. السامع المتلقي .. المخاطب .. ولكنها تحدث بصيغة الغائب !
الغائب في غفلته .. الغائب عن غاية وجوده .. الغائب عن حقيقة التوحيد ..
وربما الغائب عن المراد القرآني .. ومنتبه لمحض اللفظ ساهيا عن ماورائه .. (إنما يستجيب الذين يسمعون) .. لا السمع الانتقائي اللفظي المحض .. وإنما السمع الشمولي الذي يبتلع الفظ ومراده وكواليسه وظلاله النفسية .. ذلك هو مرتكز الاستجابة !

فلينظر .. لا فلتنظروا .. وخلق .. لا خلقت ولا خلقتم !

وتلك هي النقطة المهمة .. أن تلك المقطوعة تتحدث عن الإنسان كأساس .. بصيغة الغائب لا المخاطب ..
فتناديه لينظر من اي شيء خلق .. من هذا الماء (الدافق) المهين .. الذي لا يحمل نصف سر الحياة فقط في نفسه .. إنما في دفقه ..
والدافق اسم فاعل يدل علي الحال والاستقبال معا !
وليس اسم مفعول !
فهو ليس (المدفوق) بمعني (المقذوف) .. إنما (الدافق ) في نفسه !
فهو خصيصة اصيلة لهذا الماء .. توحي لك بالحياة المستورة فيه ..

المني ليس محض دفقات تخرج ..
إنما تقوم عملية الخلق الجديد كلها علي وجوب وجود الدفق الداخلي في هذا الماء كخصيصة أصيلة فيه !

ولتسأل أي طبيب .. ما يهمك في تحليل مني لشاب ما لبيان قابلية الانجاب ..
سيخبرك لا قيمة للعدد والكمية أو حتي للحيوانات الحية ..
إنما فقط .. الأساس (الحركة) !
motility !
يجب أن تجاوز عدد الحيوانات الحية المتحركة في دفقة المني نسبة بعينها لنتمكن من الانجاب بأريحية !

أي ان الرب سبحانه حين وصف هذا الماء .. وصفه بصته الأأصيلة اللصيقة الموجبة لاستمرار عملية الخلق وهي (الدفقان)

أخبرني بربك هل تجد لفظة أثقل حملا معنويا من (الدافق) لتوحي لك بالحركة والانسياب منه وفيه !


....
وهنا نأتي للآية مثار الاختلاف والتي اشتبكت فيها العقول وتحيرت .. فقط لأننا غفلنا أن تلك المقطوعة ببساطة تتحدث عن الإنسان .. وخلقه الأول .. وخلقه الثاني بالبعث ..
فبطل الآيات هنا .. هو الإنسان .. لا الماء الدافق ..

الانسان الذي تكون من الماء الدافق .. ثم تكوم في الرحم (الذي هو تلك المساحة بين الصلب والترائب) .. ثم يخرج منها .. ليحيا ويموت ..
ويعيد الله له الحياة ثانية .. بالبعث !

اي أن الآية التالية تتحدث عن الإنسان لا الماء الدافق .. !

الاية الاولي تتحدث عن بداية الانسان (كخلق من ماء دافق)
ثم (يخرج من بين الصلب والترائب) .. هو الانسان ايضا !

الترائب في اللغة .. هي أسفل عظام الصدر لدي المرأة .. لا الرجل !  كما جزم بذلك إمامنا اللغوي الزمخشري .. وعليه كان العرب
قال الشاعر مغازلا أثداء محبوبته مشيرا إلي عظم حجم الثدي (اشرف ثدياها علي التريب )

أي أن الترائب ليست منطقة لدي الرجل يخرج بجوارها (الماء الدافق) كما فهم بعض سادتنا المفسرين
إنما هي أعلي الصدر لدي المرأة الذي يخرج الإنسان فقط كجنين حين يصل لتلك المنطقة كما هو موضح في الصورة في الشهر التاسع !!






ففي الشهر التاسع يصل الرحم بحجمه الذي يحمل الجنين إلي تلك المنطقة ايذانا بالاكتمال والولادة ..
حين يصل للترائب .. الآن باستطاعته أن يخرج


لن أخوض كثيرا في معني (الصلب) .. فالمتبادر أنه العمود الفقاري ..
وما نميل إليه أن الصلب تطلق علي منطقة بعينها اسفل العمود الفقري عند اتصاله بالحوض .. أي أنه مجمع مركز الجسد البشري في القيام .. ففيها يلتقي العمود الفقري مع عظام الحوض مع عظام الفخد ..  ومنه (الصلب) و(الصليب) الذي يحمل نفس الشكل تقريبا !




وفي تلك المساحة بالضبط تقبع بداية الرحم (عند منطقة الصليب العظمي المبين)

أي ان الانسان يخرج حقا من بين بداية الرحم الزمنية والموضعية عند الصلب .. وسقفه القابع بين الترائب !

بالمناسبة لا احاول مطلقا أن أشير أن  بالآية اعجازا علميا .. . إنما حقيقة بدهية بسيطة ..
أن الانسان اصله ماء (دافق) .. ثم الإنسان يخرج من بين الصلب والترائب ..

ثم الله قادر في النهاية أن يعيد إنشاء هذا الإنسان ثانية بالرجعة والبعث والنشور !

ببساطة الضمير المستتر في هذه الآية لا يعود علي القريب وهو الماء الدافق .. إنما يعود علي الفاعل الأصلي ومناط الحكي .. والمخاطب بصيغة الغائب كما أشرنا .. وهو الإنسان !

والدليل علي هذا .. هو الضمير في (انه علي رجعه لقادر يوم تبلي السرائر) (رجعه)
تعود علي الانسان ..
فهو مناط الضمائر هنا .. سواء المستتر في يخرج .. أو البارز في (رجعه)


حتي أن الله بني الفعل للمجهول (خلق) ليبقي الإنسان (نائب الفاعل) هو الواضح في الصورة .. واستخدم المصدر في (رجعه) ولم يستخدم(يرجعه) أيضا ليبقي الضوء مسلطا علي الانسان فقط ..
فكل شيء يعود علي الانسان الغائب والمخاطب معا .. ينظر/ خلق / يخرج / رجعه !

هي الآيات تحملنا في مشاهد سريعة متلاحقة لدورة حياة الانسان .. تخاطب الوجدان .. لتقرير الحقيقة النهائية التي تتجلي فيما يبدو جواب ثاني للقسم الرباني في بداية السورة
(إنه علي رجعه لقادر)

أن الرب الذي اقام هذه الدورة بقدرته .. لم تزل قدرته متمكنة لا محالة من اعادة هذا الخلق عبر دورة تركيبية أخري .. تتجلي في البعث والنشور !

وتلك الحقيقة التي يصل إليها من يقرأ السورة ببساطة كما قلنا دون أن يمر بباله أيا مما ذكرته أنا من لغويات وعقلانيات ..
لأنها ببساطة تسلك طريقا مغايرا في سمتها الرئيسية.. وهو الحدس .. وطرق النفس من أبوابها الخلفية المجاوزة للفظ والفهم القريب !

فافهم !

الخميس، 15 سبتمبر 2011

سورة الأعراف (الحلقة الرابعة) قصة آدم وابليس 1

قبل الدخول إلي قصة آدم .. يعمد القرآن إلي رفع الواقع .. وإحالة الواقع عبر الأزمنة ورده إلي الاصل الأول .. إلي حقيقة الصراع القديم


"ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون"
هو رفع للواقع الحالي يتجاوز باتساع الحمل المعنوي لألفاظه حجب الزمان والمكان ..
حالة التمكين للبشر في الأرض .. سيطرة الإنسان .. أو شعوره الواهم بالسيطرة علي الأرض .. انخداعه بالتمكين .. وألفته للمعايش فتوهم بقاءه وخلوده ..
لم يرد البشر حالة التمكين التي تزداد يوما بعد يوم إلي رب الأرض والسموات ..


أحياناً نتساءل .. هل كان بإمكان العقل البشري وحده دون إلهام وتوفيق وتمكين رباني أن يصل إلي اكتشاف واحد أو أختراع واحد مما توصل إليه ..
إن المنطق العقلي أحياناً لا يتمكن من تصديق حالة التمكين العجائبية التي وصل إليها البشر علي الأرض ..
ولا يتمكن أحيانا من استيعاب أن بعض النظريات أو الإكتشافات هي نتاجات عقول البشر .. دون بناء علي علوم مسبقة ..


فقط التصور الإسلامي يرد العلوم والفنون وحالة التمكين الحضاري الشاسع الحالية والمعايش (وسائل تسهيل العيش) إلي التوفيق الرباني والقدر الإلهي في أمة الإنسان ..
الله هو المعطي الغائب دائماً في معادلات الإنسان .. في تصوراته وتفسيراته .. لذا تبقي كثير من أسئلته بلا أجوبة .. والعديد المتزايد من مشكلاته بلا حلول ..
الله هو السر الذي تنفك به شفرات الكون المستغلقة .. وتنفتح به السراديب المدفونة .. ويتسق به التصور البشري مع الكون ومع نفسه ..
الله هو ما يجمع خيوط الكون بأسرها معا .. ما يضفي علي الكون والحياة والخليقة معني وغاية وتفسير موزون ..


واي محاولة لفلسفة أو تصور يغيب فيه الله عنه .. ستكون عبث بلا طائل .. وأفكار تائهة شريدة مبعثرة لا جامع بينهما .. وإجابات تمنح المزيد والمزيد من التساؤل ..


ايما سؤال أعياك .. ابدأ دائماً في الإجابة من الله .. حتما ستتضح الصورة .. ويتسق التفسير ..


ولكن قليلا ما تشكرون ..
شكر .. رد النعمة إلي منعمها .. والملكية إلي مالكها .. وحالة التمكين إلي إرادة الله التمكين للبشر ..


ثم عودة إلي الزمن القديم .. أو ربما إلي ما قبل أزمنة البشر .. عودة لتأصيل التصور البشري ..

هو إحالة ورد مرحلة التمكين إلي مرحلة التكوين ..
"ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا ابليس لم يكن من الساجدين "
الخلق ايجاد من عدم .. والتصوير احالة من حالة لحالة ..
إرادة الله في الإيجاد .. وإرادة الله في الصورة الآدمية الحالية ..


وابليس ذاك لم يكن من الملائكة .. بل كان من الجن .. مخلوق من نار .. ولكنه رفع  في الدرجات حتي صار بمنزلتهم .. فنسب إليهم وجمع معهم في الذكر..
فعند الله ليست الأوصاف والنعوت بالقومية والانتساب ..  فالملائكية نعتا لمن حمل صفتهم ..
ولو تخيلت هذا لعلمت وطأة اللفظ اهبط منها ..
نعم هو هبوط من منزلة الملائكية .. ومن حضرة القرب .. ومن مكانة الولاية ..  ليس فقط هبوط من السماء إلي الأرض .. أو من الجنة إلي الدنيا .. فذاك خروج .
وذاك هو المعني في مرافقة اللفظ اهبط للفظ اخرج ..


الملائكة تسجد لآدم .. ياله من تكريم ... إن كلنا يسعي لحالة الملائكية .. للكمال الملائكي ..
ولكن الله يحفر في أذهاننا صورة .. صورة الملائكة ساجدة لآدم ..
فالملائكة مجبولة علي الطاعة .. مجبرة عليها .. ليس لها اختيار ..
أما الإنسان فقد حمل داخله نفخة من روح الله .. نفخة اكسبته بضعة من إرادة .. من حرية .. من الطاعة انطلاقا من المحبوبية لا القهر .. الطاعة انطلاقا من الطواعية .. من الائتمار الطوعي .. لا من التسيير الجبري ..
وذاك عند الله أحب .. واكرم ..

إن الله يحب من يطيعه وهو قادر أن يعصيه .. بل يرفع من كانت المعصية منه اقرب ورفضها طواعية لله ..
وتلك حكمة بالغة وأمل منقذ لأهل الابتلاء بالذنوب ..
فإن بعض ممن ابتلاهم الله بذنب او أكثر .. يتمني لو رفع عنه الذنب .. أو حفظه الله من نداءات الشهوة .. واخرس منطلقات الرغبة فيه .. ويتمني البعض العصمة ..
لا يعلمون أن ترك الذنب طواعية لله وهو ميسر .. متحققة أسبابه .. ممهدة سبله .. متعالية نداءاته .. احب عنده من ألف طاعة ملائكية قسرية ..
وترك الذنب بعد الاعتياد عليه لله .. ربما يحملك إلي مقامات لم يصل إليها من اعتاد الطاعة ..
إن الذنوب أحيانا تكون سبل الوصول .. تحمل لك مفاتيح الدخول لحضرة الولاية ..
فما التقوي إذن إن لم يكن للذنب نداء .. ولسبيله غواية ..
وما طعم الجنة إن لم يكن قبلها جهد وعناء ...
إن المذاقات نسبية ياسادة .. فذات الطعام يكون اشهي بعد الصيام .. ونفس الشراب يصير أحلي بعد العطش ..
والجنة من جماليتها ماكان في الدنيا من الجهد وحمل النفس علي المكروه .. فلا تسلبوا الجنان بعض جماليتها ..

"لم يكن من الساجدين "
هكذا هو التوجه الابليسي .. والنفسية الإبليسية .. والشعور الابليسي العام نحوك يا ابن آدم منذا الأزل ..
لن نقولها كما كانوا يرددونها لنا في المدارس الابتدائية .. ابليس يريدنا أن ندخل معه النار ..

الأمر أكبر من هذا .. هو لايريد لك رفعة من اي لون .. يكره ارتقاءك .. يحزنه تقدمك ..
أتدري ماهو أكثر ما يغيظه .. ويسعي طاووس الملائكة القديم لمنعه بكل جهده ..
أن تكون أقرب من الله ..

فما حقيقة لعنته وطرده .. سوي ولاية الله القديمة لآدم ..
إن ابليس لا يسعي لافساد الأرض .. فهو لايعبأ بالأرض ..
إنما يسعي لافساد علاقتها بالسماء .. يسعي لقطع الاتصال بالنور ..
يسعي لكلمة وحيدة سمعها وحده مرة .. ويريد أن يسمعها آدم كل لحظة .. كلمة اهبط .. اهبط .. اهبط ..

لو كان ابليس جنيا مخلوقا للغواية منذ البدء لكان أهون علينا ..
ولكنه كيان ذاق القرب .. ذاق طعم السماء .. لمس هول الحضرة ..
ثم هبط ...
هبط فكان هبوطه مضاعفاً ..
تماما كالغائص في أعماق البحر .. ولكن من فوق جبل ..
لن يكون ابدا كطاقة الغائص من سطح الأرض ..

وابليس كان عاليا .. كان قريبا .. كان سماويا ..
وهبط ..
هبط بحقد أكبر .. وحسد أعظم .. وطاقة أشد ..
هو يراك انت سبب هبوطه .. سبب سلبه نعيمه القديم إلي الأبد ..

يراك سبب شقائه الأزلي ..
يملئه الثأر ... ليكون هو ايضا سبب شقاءك ..

"قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين "
تلك الآية تحمل لمسة جميلة كثيرا ما نغفل عنها ..
لو سئلت أحدهم لماذا طرد الله ابليس .. لأجابك لأنه رفض السجود لآدم ..
ووالله لم يفعل ؟؟
إن الله لم يطرد ابليس بعد أن رفض السجود لآدم .. حاشاه الحليم أن يؤاخذ بالعصيان هكذا ..
وتأمل كل المقاطع القرآنية التي تحدثت عن تلك الحادثة المحورية ..
دائما تجد ذاك الحوار بعد السقوط .. السؤال عن السبب وهو أعلم به ..
ولكنها لمراجعته .. عله يتوب .. عله يعود .. عله يستغفر ... لعله يسارع في تدارك الأمر واللحوق بركب الساجدين ..

بل إن تركيب هذه الأية أكثر ما يدل علي ذلك ..
فلو رأينا أن حرف لا في ألا تسجد بمعني النفي لفسد المعني لأنه سيصير .. ما منعك أن لا تسجد .. ولا شيء منع ابليس أن لايسجد .. إنما سيكون صواب الكلام .. ما منعك أن تسجد ؟؟!!
ولكن دعونا نغير أماكن الوقف .. ونقرأها هكذا كما قرأها بعض المفسرين
ما منعك ؟؟   .... (وقف) .. ألا تسجد إذ أمرتك ..
وكأن ألا هنا استفهام "وهو أعلم" ..  للحث ..
كأن تقول ألا تفعل كذا من أجلي من فضلك ؟؟

وما منعك .. يمنحه فرصة للتبرير .. للاعتذار .. للعتبي .. ولكنه لم يفعل ..

إن ابليس طرده الاستكبار .. طرده التأله علي الله .. طرده محاكمة حكمة الله بمحدودية عقله .. طرده محاولته العابثة رد الحكم الرباني ..
لم يطرده العصيان .. إنما طرده منطلق العصيان ..

وتلك الآية قد حملت بضعة سمات للأبليسية الأولي هي السبب في سقطته وشقوته .. حملت منطلقات العصيان .. التي هي اسباب الطرد والهبوط .. حينها .. وللأبد .. لابليس ولغيره ..

- إن خطيئة ابليس العظمي ..أنه قد ظن أنه لايوجد متسع للجميع .. وظن أن حضرة القرب من الله لا تكفي لكل الواردين ..
راي في تكريم آدم له إهانة .. وفي رفعة آدم حطة منه ..
وفي مشاركة المخلوق الجديد .. مزاحمة وضيق ..
ذاك منعطف الطاووسية .. وعثرة الأنا النرجسية ..
وتلك صفة قد سربها ابليس لبعض الآدميين .. فظنوا ألا متسع للجميع ,, وأنه لايوجد ما يكفي للكل ..
وظنوا أن الأصل في الحياة الطوابير .. ومن يقف أولا ؟؟ .. وأن غاية العيش التراتبية .. ومن هو الأفضل ؟؟

ومن سماته ايضا تزكية النفس بمعني الظن بخيريتها .. أنا خير منه .. وكأنه في مقابلة عمل لمدير لا يعلم شيئاً عن المتقدمين ..
تماما كبعضنا .. يرفع سيرته الذاتية إلي الله معترضا علي حكمته في وضعه المعيشي .. يتساءل عن مكانته ..
يري أنه مبخوس الحق ..

وبعضنا يري أحيانا في الإلتزام تضييعا لبعض مواهبه .. أو تضييقا علي لامحدودية الابداع فيه ..
وكأن الله حاشاه لا يعلم مدي امكاناته وقدراته ومواهبه ..
اطمئن يافتي .. واهمس للنفس "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير"
"ولا تزكوا أنفسكم هو اعلم بمن اتقي "
"ألم تر إلي الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء"

كم مرة في الحياة وجدت أحدهم يقترح عليك في تخصصك وهو لايفقه فيه شيئاً .. فوجدت نفسك تري الاقتراح والمساءلة إهانة .. ووجدت نفسك تدعوه أن يأتي هو ليفعلها .. بل ربما اعتذر الطبيب عن علاج المريض المتفيهق الذي يحشر أنفه ويحاكم علم الطبيب ..
ويحنا .. كم نفعل هذا مع الله كل يوم ..
حين نحاكم اقداره .. حين نقول لو ..؟؟ .. ولماذا ؟؟ .. وماذا لو يحدث كذا ..؟؟
حين نتفيهق ونتأله .. ونقترح علي قضاء الحكمة فينا .. ونعاتب العناية الربانية .. ونعترض علي الإرادة والمشيئة القدسية ..



إن ابليس يحاكم الحكمة .. ويساءل علم الله ..
وكأنه يعيد تقييم معايير الله بمفاهيمه المحدودة .. وتلك أيضا قد سربها لبعض بني آدم ..
تراهم يتألهون .. يتفلسفون .. يعملون عقولهم المحدودة في احتواء الحكمة اللامحدودة ..
ثم يحاكمونها .. يعترضون .. يقترحون .. يقيمون .. يرفعون لله معاييرهم ويحاكمون دينه وقضاءه وشريعته بها ..
والله وقرآنه ودينه .. يستدل به ولا يستدل عليه ..
يحكم ولا يُحَاكَم ... يزن ولا يوزن ..


ومن خطاياه ايضا .. الحكم .. تعيير الأشياء والأشخاص .. القولبة ..
تلك أيضا من سمات النفس الإبليسية .. الحكم علي الآخر .. محاكمته بقوانينك ..
قولبته في قالب ووضع ملصق عليه بالمقادير والسعرات ..
أن تجعل الآخرين كعبوات في ذهنك .. ذاك كذا وهذا كذا ..
"الله يحكم بينهم "
"ولا تقولوا لمن ألقي إليكم السلام لست مؤمنا............... كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم "

يتبع
"إلا أن يشاء الله"

الثلاثاء، 13 سبتمبر 2011

سورة الأعراف (الحلقة الثالثة) 4-9

الأعراف كما ذكرنا تقوم علي مرتكز واحد وهو عرض الفريقين .. والوقوف بالاطلاع المضيء بينهما .. ((حالة الأعراف))
وتتميز عن غيرها من السور ببضعة ميزات .. منها حالة الأممية .. والتركيز علي الجمعي أكثر من الفردي ..
فنجد فيها تكرار لكلمة أمة .. وقصص الأمم السابقة .. فهي سورة للمسار الجمعي اكثر من كونها سورة للمسار الفردي ..
هي سورة للتزكية الجمعية للأمة بأسرها .. التزكية الجمعية كحالة إيمانية تسري في الجموع لا بقصد التشريع المجتمعي ..
"
"وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون "
وذاك أحد محاور السورة .. كما ذكرنا من قبل .. التصور الإيماني في التاريخ .. في حياة الأمم وآجالها وأقدارها ..
تلك اية محورة إجمالية .. سيأتي تفصيلها في ذكر بعض تلك القري والأمم الهالكة ..

هو البأس الرباني يتسلل .. العقاب النهائي يدلف علي حين غفلة ..
تماما كغفلتهم المعنوية.. كغفلتهم عن آيات الله واستمرائهم للعصيان وألفتهم لحياة الدعة والخمول والروتين الدوار .. يأتيهم العذاب في احدي غفلتين .. غفلة الليل الإضطرارية لأجسامهم بالنوم .. 
وغفلة النهار الإرادية بالقيلولة ..

فلتحذر من طول الأمل .. والاغترار بحلم الله .. فعقاب الله من خواصه المباغتة .. وأنه لا يأتيك حين تنتظره فانتظاره دليل علي بعض الحق فيك ..
ولكن احذر ذاك الاستدراج .. ألا ينزل العذاب عليك بالعصيان .. فيخفت انتظارك حتي يتلاشي .. فتألف العصيان ..
وحينها فقط .. حين تغفل .. حين تسقط تحصنات استعدادتك .. وبقايا التوبة فيك ..
حينها فقط .. حين تنكشف مواطن الضعف فيك .. حين تكون مشكوفا تماما .. غافلا تماما .. حين تكون في أوج نجاحاتك ..

في أوج انسيابك في سنة الغفلة .
حينها ينزل العذاب ..


وربما ينزل حين لا ينفع نفس ايمانها .. مصحوبا بالغرغرة حين لا تنفع التوبة ...

"فما كان دعواهم إذا جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين "
هو اعتراف يحسم القضية .. اعتراف تم انتزاعه من المناطق المظلمة من النفوس .. من السراديب الللامأهولة ..
اتعراف خارج عن التنمقات والتجملات .. خارج عن استكبارهم .. خارج عن الهيئة والرسم والوصف والمكانة الاجتماعية ..
اعتراف حين يتعري الضعف البشري أمام العذاب الذي يناسبه ..
فمن خلقه يعلم جيدا كيف يعريه ..
فبأس الله يعرينا .. يكشفنا أمام أنفسنا ..
يسحق حججنا .. ومبرراتنا .. وتجملاتنا .. ومجاذبات الشهوة فينا ..
بأس الله يوقفنا أمام مرايا شفافة .. يضعنا علي موازين الحق ..
يجعلنا نحن الحكام بعد أن يمنحنا معياراً حقيقية ويسحق ماعداه من معاييرالزيف والخواء ..

بأس الله يجعلنا نعلم ما يستحق .. ومالا يستحق .. فما يستحق ليس سوي ما كان الحق من سماته (يستحق - حق ) .. ما يستحق ليس سوي ما كان حقيقياً في ذاته .. وليس من حقيقي سوي ما يبقي .. وليس ما يبقي سوي ما كان من الآخرة أو للآخرة ..

بأس الله يعرينا .. ويعري دنيانا ..
يمنحنا أكواداً ومفاتيح لأبواب الحيرة .. يعلمنا شفرات ما استغلق علينا من الأسئلة ..
فأحيانا تبقي كثير من الأسئلة معلقة .. حتي ينزل البلاء .. حينها فقط نتمكن من الإجابة ..
وحين يرفع البلاء نعود لننسي .. أو نتناسي ..
بأس الله يكشف الغطاء .. فتتجاوز ابصارنا حجاب المادة والغفلة وبريق الزيف .. إلي عمق الحقائق ..

اتدري ايها الإنسان ما أنت حقا؟؟ .. انظر إلي نفسك في عمق البلاء ..
اتود أن تعلم اجابات اسئلتك المعلقة .. لا تحاول الإجابة عليها برفاهية الغفلة .. إنما حاكمها بواقع البلاء ..

إن الإجابات الصحيحة .. لا تخرج إلا في البلاء ..
لكنها احيانا تخرج .. في البلاء الأخير .. حين لن تنفعك الإجابة ....

" فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين . فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين " 
كعادة الأعراف .. كمرتكزها  .. رسم الصورتين بحيادية .. وبمجرد النقل الكامل للصورة يحدث الحكم المنطقي .. فهو حكم دون حكم ..
بسؤال الأمة .. وسؤال الرسول .. حين انكشاف الزيف .. حين لا سبيل للكذب .. حين تتعري الحجج .. وقتها يحصل الحكم العدل .. ويرضي به كل الأطراف ..
فلن تسمع يوما عن رجل من أهل النار ينادي بأنه كان يستحق الجنة .
تقف حالة الأعراف بين الرسول وأمته ..
بسؤال الطرفين .. بإكمال الصورة .. بالإجابة علي التساؤلات العالقة ..
ليس سؤال عن جهل حاشاه .. وليس سؤالا استفساريا استعلاميا .. إنما سؤال اقامة الحجة .. سؤال رسم السورة وتحديد معالم القصة علي ألسنة معايشيها أنفسهم .. واخراج الحكم منهم ذاتهم ..
هو سؤال عن علم وحضور .. بعلم .. وما كنا غائبين ..

" والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون . ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون"
وداعا موازين الدنيا المقلوبة .. وداعا معايير الخواء والإدعاء .. وداعا للغثاء الثقيل .. والزبد المتراكم ..
هناك الميزان الحق .. حيث ساقي ابن مسعود أثقل من أحد .. وحيث الرجل العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة كما في الحديث ....
هناك حيث درهم اثقل من الف درهم .. وحيث كلمة اثقل من سبعين سنة .. وحيث ركعة ارجح من ألف ركعة ..
هناك حيث المعنوي يتجسم وزنا ..
حيث يوزن الصدق ..
حيث إيمان ابي بكر يرجح إيمان أمة بأسره .. بم ؟؟ .. بشيء وقر في صدره ..
حيث يوزن شيء ابي بكر .. ؟؟ .. حيث جناح بعوضة اثقل من دنيانا .. كما في الحديث ..
حيث كلمة صدق ارجح من كتب مجلدة فاخرة الطباعة .. وحيث حرف لفظ بصدق ارجح من الاف الخطب الحنجرية الرنانة ..
حيث أعمال كالجبال لا تزن الذرة يومئذ .. حين تجعل هباءا منثوراً .. لأناس إذا خلوا بالمحارم انتهكوها ..

حيث الصدق هو العملة الرائجة .. هو الورقة الفائزة ...
حيث القلوب هي المعيار لا أجساد وحركات ..
هو الوزن الحق .. والفوز الحق .. والخسران الحق ..
المفلح من أتي بالأثقل صدقاً .. والخاسر هو ذاك الذي ظلم نفسه بالاستكبار عن الحق والارتماء في ركام الزيف الفارغ ..

 هل اعددت في دواخلك شيء منك قد يوزن ..؟؟ .. هل لديك من نفسك ما قد يرجح ؟؟
هلا حاسبت دنياك بميزان الآخرة لعلك تحمل بضعة جرامات صدق تنجو بهم هناك
.................... 

سورة الأعراف(الحلقة الثانية) 34-36

هي سورة الأعراف .. سورة تسري في ىياتها نكهة موحدة .. نكهة الأعراف .. سمة موحدة .. موضوع موحد .. ومرتكز واحد تقوم عليه السورة ..
هذا المرتكز يتجلي في عنوانها .. الأعراف ..
فما الأعراف إلا كيان ما .. بين الجنة والنار .. بين المآل النهائي لأهل البياض .. وأهل الظلام ..
الأعراف هو مقتطع من الدنيا .. أنموذج مصغر .. ماكيت للدنيا .. فما حياتنا الدنيا إلا تلك التمزيقة .. الدوامة .. بين البياض والسواد ..
بل الإنسان نفسه .. يحمل في نفسه الأعراف .. حين يلقي نظره إلي الحق ويصرف نظره تلقاء الباطل .. بين لمة الملك ووسواس الشيطان ..
سورة الأعراف .. هي تلك المقارنة المعقودة طوال السورة بين المتضادين . بين الزوجين .. بين الحق والباطل .. بين التحريم والحل .. بين الأمر والنهي ..
بتدقيق النظر في السورة تجدها تحمل هذا الرابط وهذا التسلسل ,,
فمثلا إن الله لا يأمر بالفحشاء .. تعقبها .. أمر ربي بالقسط ..
وقل من حرم زينة الله .. يعقبها .. إنما حرم ربي الفواحش ..
فمن اتقي واصلح .. يعقبها .. والذين كذبوا ..
مناطها .. فريقاً هدي .. وفريقا حق عليه الضلالة ..
إن سورة الأعراف .. هي أعراف القرآن .. هي التي تتجلي فيها الثنائية .. الوقوف علي اعتاب الطريقين بالتأمل .. وسنذكر ذلك بالتفصيل أثناء متابعة أيات السورة في سريانها ..
تري من أولئك الواقفين علي الأعراف ..  ولماذا لم ينتموا لأي الفريقين ..
وهل هناك منطقة وسطي بين البياض والسواد ..
لكي يتضح موقف أولئك الأعرافيين .. ندلف إلي التصوير القرآني الللازمني .. لحقبة ما من حقب الآخرة ..

" ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون "
يرتكز التصور الإسلامي للتاريخ علي فكرة أن الأمم كالأفراد .. لها أقدارها الخاصة ..
لها آجالها .. تقديرات الله فيها ..
ليس قدر الأمم نتاج مجموع أقدار أفرادها .. كما ليس تشريعاتها مجموع الأوامر والنواهي الفردية ..
إنما للأمم أقدار متباينة ومتداخلة مع مقدرات اللأفراد .. وتشريعات خاصة منفصلة عن التشريعات الفردية ..
فنسمع عن فروض الكفايات .. وفرض العين .. وفرض الجمع ..

التصور الإسلامي يري الأمة كشخص اعتباري بالمصطلح القانوني .. يقوم ويسقط .. وينجح ويفشل .. ويعبد .. ويتقي ويعصي ..
يحل عليه السخط .. وينال الرضا .. شخص له عيوب وميزات .. نجاحات وفضاءل .. كما له هفوات وفجرات ..
شخص اعتباري لابد له من تربية جمعية ربانية .. وتزكية خاصة تقوم علي ارادته هو ..
هكذا ينظر التصور الإسلامي إلي التاريخ وإلي الأمم ..
وهكذا يحاكم الحضارات .. بمفهوم الشخص الإعتباري ..
الحضارات كالشخوص .. لا خير محض ولا شر محض .. بما فيها الحضارة الإسلامية والأمة الإسلامية القديمة ..

كثير منا تنتابه الشكوك حين ينظر في تاريخ الدولة الإسلامية .. شبهات ترتمي في عقله .. لأنه لم يحاكم التاريخ الإسلامي بالتصور الإسلامي ذاته ..
لم يحاكمه بمفهوم الشخصنة الإعتبارية ..
بمفهوم السيرة الذاتية .. تماما كما ننظر إلي تاريخ الأفراد .. فنري يد الله تعمل .. ترفع وتضع .. بحكمة ..

إن حكمة الله لم تغب يوما عن الحدث التاريخي .. فلم يحدث في كون الله ما هو خارج عن مشيئته الكونية .. وإرادته التدبيرية .. حتي وإن لم يكن في معيار الحب والبغض .. والرضا والسخط موافقا لرضاه .. ولكنه لم يخرج يوما عن مشيئته وحكمته ...

الأمم كالأفراد .. إذا جاء أجلها .. لن ينفعها فكاك وفرار .. لن ينفعها مداواة وانعاش .. لن ينفعها إيمانها إن لم تكن أمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ..
لن تقدم ولن تؤخر ..
الأمم كالأفراد .. قد تمرض قبل الموت .. وقد تتوعك .. وقد تشيب ..
تفتر وتشتر .. تشب وتغفل ..
الأمم كالأفراد .. تأتيها رسائل إيقاظ وهتافات هزة ...
الأمم كالأفراد .. تنزل بها بلاءات استرجاع .. فمنها من يفيق .. ومنها من يستمر في غفلته ..
الأمم كالأفراد لها شهواتها ومحارمها .. بل لها شيطانها الموسوس .. وملاكها السابح بالخير محفز ..
ذاك  هو التصور الإسلامي عن الأمم والحضارات .. والتاريخ ..

"يابني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقي واصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون "

هو نداء للأمة الكبري .. أمة الإنسان .. فالإنسانية أمة في ذاتها .. أيضا لها أقدارها .. ((إلا أمم أمثالكم ))
هو نداء تذكيري بوحدة النفس الإنسانية .. وحدة المصدر .. وحدة الأب .. وحدة الشهوة والصفاء معا .. ناداهم بآدم .. الذي قد ذكر قصته مع ابليس منذ قليل .. وكأنه يحيل الذهن إلي أنكم أبناء هذه القصة .. وهذا الصراع ..
أنكم ابناء النسيان والتوبة .. ابناء الاغترار بالمقاسمة الشيطانية للثمرة المحرمة .. تغترون دائما بمن سبقكم في القضمة .. فتظنون أن بقضمته الأمان .. فتسيرون علي خطاه .. حتي تتبعونه هبوطه محسورا ..

هو النداء الثالث لبني آدم بذات الصيغة في السورة .. فالسورة تقوم علي اظهار الفريقين فريق النور وفريق الظلامية .. وتضعك بحيادية علي رسم صورة كاملة لمعتقداتهم وعيشهم ومآلهم .. تصنع لك الإختيار المضيئ .. اختيارا عن معرفة كاملة ..
تضعك أمام النجدين .. نجد الشكر  .. ونجد الكفر .. (وهديناه النجدين .. إما شاكرا وإما كفورا)
ولهذا فقد اغرقت في التاصيل .. فعمدت إلي قدم الخليقة .. واصل الصراع .. إلي وقت ولادة الظلام الإبليسي المستكبر علي الأمر.. وصراعه مع قوي النور الساجدة ائتماراً وطاعة .. والواقف بينهما آدم كأعراف حديثة التشكل ..
  بعد النداء الأول .. يابني آدم لا يفتننكم الشيطان ..  نداء تحذيري من طريق الظلام وقائده .. يأتي نداء تحفيزي لاتباع قادة طريق النور ... يابني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ..
وكعادة الأعراف .. تضعك في الاختيار .. ترسم لك الطريقين دون أن تامرك بصراحة اتباع ايهما ..
فنجد تصميم الآية لا يحوي أمرا بالاتباع ..
إما يأتينكم رسل .. أي حين ياتيكم قادة النور المصلحين .. من الأنبياء والمرسلين .. تكونون قسمين  .. ولكم الاختيار ..
قسم من اتقي واصلح ..  ومآله لا خوف ولا حزن ..
وقسم من كذب واستكبر .. ومآله النار بالخلود ..

اتقي واصلح .. التصور الإسلامي يمتاز عن باقي التصورات البيضاء الساذجة .. اللامكتملة .. انه لا يدعو إلي تزكية النفس وحسب .. لايدعو إلي تقوي فردية وصلاح أناني .. إنما يستوجب انطلاق من هذا الصلاح نحو الإصلاح .. من التقوي نحو التغيير المجتمعي .. من التشريع الفردي نحو التشريع الأممي .. من السيرة الفردية نحو السيرة الأممية ..

ولا خوف ولا حزن .. فتلك هي مرتكزات الاتقاء البشري .. البشر يبحثون عن رفع الخوف ورفع الحزن .. متطلباتهم الرئيسية الأمان والسعادة  .. نفي الخوف ونفي الحزن  ..
والله يكفلها لأولئك المتقين المصلحين .. ولاشيء في الكون يمنحك تلكما معا .. سوي الارتماء في التصور الإسلامي النوراني والإصلاح من خلال المعسكر الإسلامي الأبيض ..
إلي أولئك الباحثين عن الآمان .. المتلمسين للسعادة ..  لا سبيل لكم سوي التقوي الفردية .. والإصلاح الجمعي ..

كذبوا بآياتنا .. واستكبروا عنها ..  هما طريقين للزيغ والضلال .. طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين ..  لاثالث لهما .. طريق المخدوعين والمخادعين ..  طريق الأعمي .. وطريق من اغلق عينيه أمام النور بكامل أرادته ..
طريق من كذب بالآية لسواد في قلبه .. او لشهوة أعمته .. او لظن عقلي فارغ .. أو سفسطة خاوية من المعني ..
وطريق من رآها .. واستيقنت بها نفسه .. لكنه استكبر عنها .. وتلبس أوشحة الأباليس .. وقال أنا خير ..

وكلاهما كفرعي نهر الظلام (التكذيب والاستكبار ) يجتمعان في المصب النهائي .. النار خالداً ...

يتبع .......

الاثنين، 25 أبريل 2011

البقرة 212 ((تاصيل تاريخي للتصور الإيماني 1))


"كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه .. وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم "
تلك الأية من الآيات التي طالما استتوقفتني واستوقفت غيري .. وهي من الآيات التي تحتاج مزيد تدبر وتدقيق نظر ... وتحتاج إلي نظرة شمولية ... إلي المقطوعة القرآنية بأكملها ..
فالله في صدد الحديث عن العلاقة بين المعسكر الاسلامي والمعسكر الظلامي .. وعن فقه الجهاد .. والتربية الربانية للصف الإسلامي المجاهد ..
لذا فهو يعقد هنا تأصيل فكري واضح وناصع وكامل .. تأصيل بمقدمة تاريخية تعود إلي البدايات القديمة قدم العالم .. تأصيل تاريخي لمن صنع بإرادته التاريخ .. واطلع بعلمه علي دقائق الأحداث فلا تأريخ كتأريخ المولي في القرآن ..
ولابد للتصور الواضح من قواعد ثابتة ليرتمي عليها ثقل العالم بتساؤلاته .. وتتفتت عليها محاولات الشياطين بشبهاتها .. ويحتكم إليها المؤمن في سجاله اليومي في مفاصلة واضحة مع تصورات الظلامية ..
وهنا احدي ابجديات التأصيل الرباني للتصور الإسلامي .. النظرة التاريخية لحقيقة الاختلاف وتطورها عبر الأزمان ..
البداية الأمة الواحدة .. الأسرة الواحدة ..  الناس كلهم أمة واحدة .. فبعث الله الرسل ..
المتدبر السطحي يظن الرسل سبب الخلاف الطارئ علي هذه الأمة الواحدة .. وتلك ايضاً شبهة الظلاميين ذوي الأفواه السكرية والأيادي النظيفة والأعين الرقراقة .. يقولون الدين سبب الخلاف .. والله سبب الدماء ..
تتبع الآية ستجد أن ارسال الرسل كان للحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه .. اي انهم كانوا مختلفين قبل الرسل .. وأن اختلافهم دون معيار للاحتكام هو سبب ارسال الرسل وليس العكس ..!!
وهنا ينبغي أن نعمق النظرة ..
إن مفهوم الأمة الواحدة .. ليس معناه أنها لا تحوي اختلافاً .. بل بالعكس إن الله هنا يجعل الاختلاف سنة كونية ثابتة .. وحقيقة خلقية مقصودة .. "ولايزالون مختلفين إلا ما رحم ربك ولذلك خلقهم" .. هو خلقهم مختلفين .. وخلقهم ليكونوا مختلفين .. والإسلام هنا يسبق تصورات العالم بأسره في تقبل الخلاف .. واتاحة الحرية الكاملة للاختلاف ..
ولكنه يضع لهذا الاختلاف معياراً .. وميزاناً .. وحكماً .. حتي لا يصاب الانسان بلوثات الحيرة .. واضطرابات التوهة بين الأراء والتصورات ..
إنه يرسم للخلاف حدوداً .. ويضع للاتفاق قواعد .. ويصنع للتصورات أرضية مشتركة ..
وتلك حقيقة النبوة والرسالات ..
لذا يتحدث مولانا عن أزمنة ما كان الناس أمة واحدة .. فالنبوة سنة ربانية وكونية قديمة قدم الاختلاف ..  مرتكزاتها ومنطلقاتها ورسالتها ثابتة ثبات  تلك الحقيقة بثبات مصدرها النوراني .. لا علاقة لها بالتغيرات التي تطرأ علي الأمم المتغيرة .. وخصائص الشعوب والأقوام .. فقد كانت النبوة قبل أن تكون القوميات والأعراق واللغات والشعوب .. كانت النبوة مذ كان الناس أمة واحدة
وكأنها ثابتة في اللاوعي الجمعي .. متوارثة في جينات الشعوب علي اختلاف الوانها فالمعين واحد .. هو الأسرة الآدمية الحواءية القديمة .. والأمة الواحدة التي تشربت القواعد الأولي للتصور .. والمرتكزات الأولي للنبوة .. وحملتها في أرواحهها واصلابها .. ونمت داخل الانسان في منطقة ما مظلمة من نفسه غريزة اساسية كغريزة الطعام والشراب .. وهي غريزة البحث عن الله .. غريزة تحسس الحق .. وتلمس التصور الرباني القويم ..
غريزة التنقيب عن المعيار القديم الذي انزله الله ولم يزل الناس أمة واحدة ...
هناك في منطقة ما مظلمة من النفوس .. منطقة بلا لغة .. ولا لون .. ولا صورة .. ولا حدود بيئية .. نتوحد فيها جميعاً ..
تردنا إلي تلك الوحدة القديمة حول المعيار الرباني الأوحد .. حول هذا "الكتاب" القديم ألذي انزل بالحق ليحكم بين الناس ..
ثم تطور التنزيل ذاك ليلائم التطور الشعوبي .. والقومي ..
ولكن اصل الكتاب لم يتبدل ,, ومرتكزات التصور الذي يحمله لم يتغير ..

فــ"بعث " الله النبيين ..
وهنا يجب أن نفيض قليلاً في لفظة النبيين في القرآن ..
جمع نبي في القرآن يأتي علي وجهين .. الوجه الأول .. النبيين .. والوجه الآخر الأنبياء ..
الأول جمع مذكر سالم يضم ياء ونون .. .. والأخر جمع تكسير "جمع غير اعتيادي" ..
وذاك من آيات الاعجاز التكنيكي في القرآن ..
فحين تأتي اللفظة علي صيغة جمع المذكر السالم .. فلابد وان تلحظ أن المقطوعة القرآنية تتحدث عن وحدة الرسالة .. والأرضية المشتركة للرسالات الربانية بمختلف ممثليها ..
وحين تأتي علي صيغة جمع التكسير .. تجد المقطوعة القرآنية تتحدث عن التنوع .. والتعددية .. كأن يتحدث المولي عن تنوع الحجج والبراهين والآيات التي حملها الأنبياء .. ورغم هذا كان التكذيب .. وسنتعرض لكل لفظة في مكانها بإذن الله ..
فحين تأتي النبيين فالمقصود ارضية النبوة وسماتها المشتركة ووحدة الرسالة .. وحين تأتي الأنبياء فالمقصود التنوع واختلاف طرق الدعوة وخصائص الرسالة تبعا لاختلاف الأقوام

ولا حاجة لنا هنا إذن في بيان أكثر عن مناسبة جمع النبيين علي هذا النحو في هذا الموضع الذي يتحدث وبصراحة عن وحدة الرسالة منذ عهد الأمة الواحدة ..

والكتاب مفرد .. والنبيين جمع .. فإن اختلف الممثلون للحقيقة النورانية .. وتنوع الحاملون لتكليف توصيل التصور الرباني للعالم .. فالتصور واحد .. ومعيار الحكم لم يتغير ..
الكتاب واحد .. والأنبياء شتي ..
الكتاب واحد .. والرسالات شتي .. والرسل كثر .. والأقوام تتعاقب ..
ويبقي الكتاب واحد ..
وصورته الثابتة الأخيرة الواحدة الباقية المحفوظة من العبث والتشويه والتلاعب .. هي تلك التي بين ايادينا بين دفتي المصحف ..
متناسقة مع ذاتها في هارمونيا عجائبية توحي في نفسها أنه محفوظ من الإضافة والحذف ..
فلم يجد علي القرآن شيء .. ولم يسقط منه شيء..

...............................................................

نزل الكتاب إذن ليضع هذا الاختلاف الأصيل بين البشر في صورته الصحية .. ويضع له اصوله وقواعده ومعيار احتكامه .. ومناطه "الحق" الذي فيه .. والحق الذي انزل به .. وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ..
وكأنه استمد الحق من مولاه .. استمداداً اصبح وكأنه يحمل معين الحق الخاص به .. تماماً كبحيرة تروي قرية بأكملها وهي انما ترتوي من النهر مباشرة ..

"وما اختلف فيه إلا الذين اوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم"
وهنا حدث نوع جديد من الاختلاف العابث .. الاختلاف المذموم .. اختلاف مرضي يقوم علي فساد القلوب .. اختلاف مناطه البغي لا اصل التنوع الخلقي ..
اختلاف في المعيار الأبيض ذاته ..
اختلاف في حقيقة الحقائق .. واصل الاصول ..
اختلاف ربما يراه من تشرب من ذاك الحق فراغاً عجائبياً .. ونزقاً اسطوريا لا محل له من التفسير ..
نوع جديد من الخلاف طرأ ..
وهذا الخلاف بالذات لا مجال لوجوده .. وذاك الخلاف بالتحديد هو الذي يقوم حوله الصراع الجهادي ..
فالله في حديثه عن الخلاف الأول العام .. وكأنه أقره ووضع له فقط معيار الاحتكام والحدود الكبري .. وكفله بحرية فريدة وجديدة علي التاريخ الانساني ..
ولكن الخلاف الآخر .. الخلاف علي الكتاب ذاته .. وعلي معيار الحكم نفسه ... وعلي أصل الأصولية بالوهية وربوبية وحاكمية الله علي الكون بأسره .. ذاك خلاف لا يسكت عنه .. فهو ينخر بجسد الكون ... ويدمر اساساته .. ويحاول اعادة الانسان إلي ظلامية التوهية .. ولوثات الحيرة المدمرة للإعمار الكوني المطلوب منه بدءاً ..
لذافهو الخلاف الذي قام حوله التأصيل الجهادي .. والمعسكر الحركي الإسلامي الأبيض ..

وياله من تاصيل رباني للمشروع الكوني الإسلامي .. ولأيدولوجية الدولة المسلمة .. ولتصور الحركة الربانية الجهادية باكملها ..

فبعد هذا الخلاف كان ظهور المعسكرين .. المعسكر المهدي "فهدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه"
لاحظ الإحالة المقارنة هنا ..
ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه .. الخلاف الأصيل المقرر الخلقي العادي ..
فهدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق  .. فالخلاف هنا خلاف في الأصول .. خلاف في الحق .. خلاف لا مبرر ولا يقرر ..
وفارق بين اختلاف بشري اصيل مناطه التنوع .. واختلاف في الأصول مناطه البغي وبطر الحق ..

وبالتالي أصبح علي هذه الفرقة المهدية إلي الصراط المستقيم الحفاظ علي هذا الحق .. والذود عنه .. وتبليغه إلي الحائرين .. وانقاذ الغافلين والمخدوعين بالظلامية والجاهلية ..
واصبح عليهم مواجهة "الباغين" في الحق .. وتحمل الأذي من معسكر الظلام الشيطاني المتكبر علي الحق ..
وذاك التحمل والصبر علي الاذي .. واحتمال الرباط علي ثغور التصور .. ومنافحة مناوشات الشبهات الظلامية .. واحياناً تحرشاته المباشرة بجسد المشروع الإسلامي ذاته ... ذاك الصبر هو الثمن الوحيد المقبول للجنة ..
"أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتي يقول الرسول والذين آمنوا معه متي نصر الله .. ألا إن نصر الله قريب "

يتبع مباشرة 

الاثنين، 4 أبريل 2011

القصص 3 (الآية 4-6)

" إن فرعون علا في الأرض وجعل اهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم "
ولأنها سورة القصص .. فلا تقرأها كغيرها .. فهي تحمل جانباً تصويرياً لا يجلب آثاره دون عيشه متصوراً حاضراً .. بشخوصه وحركاته .. بالصوت واللون .. بسرعة الحركة حيناً وتباطؤها حيناً .. وايقاف المشهد حيناً ليدلف صوت الراوي المعلق علي الحدث حيناً ..


وكمشهد حركي سريع صامت تبدأ الحكاية ..
فتخيل تلك الشاشة السوداء في البداية وصوت في الخلفية ينبئك أنك ستسمع حكاية موسي وفرعون ..
ومع اسم فرعون تبيض الشاشة لـتأتي بمشهد صامت سريع علي الوضع .. فرعون عال في الأرض ..


وكعادة الفراعين .. علو منبثق من تحطيم القاعدة المحكومة .. تجزئتها .. تفتيتها .. تشييعها ..
الفرقة ذنب الجماهير .. وخطيئة الأتباع الدائمة ..
التشيع .. والتحزب فتنة الفتن .. معول الهدم الاعظم .. وسلاح النخر في عظام الأمم ..
مجرد النظر إلي الأحوال يصيبك بغصة خانقة .. هؤلاء جميعهم يتفقون علي مبادئ اساسية .. جميعهم مستضعفون ..
جميعهم مهزومون .. جميعهم طيبون يمثلون البياض ..
ورغم هذا .. وبكل سخرية الكون .. ينشغلون بمناوشات بعضهم ..
ينشغلون بمكانهم في الصف عن المعركة الدائرة ..
ينشغلون بلون الفرس .. وعدد أزرار الزي .. وجواهر الغمد .. وعدد احزمة الدرع .. 

ينشغلون بقضايا الأمس .. ومعارك الأمس .. وفتن الأمس ..
تمضي الأعمار .. وذاك لم يزل منشغلاً بلعن معاوية ... وذاك لم يزل منشغلاً بالدفاع عنه ..
وقد مضي معاوية .. والفريقان يلبسان الأبيض .. 
والأسود هناك علي الثغر .. باسم الثغر ..


وصوت النبي .. النبي .. ذاك القرار الأبيض في أذهان الجميع .. لم يزل في الأفق يدوي : لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ..
ونتن الدعوي للفرقة لم يزل ريحها محفوظاً للنفرة علي لسان المحذر الابيض : دعوها فإنها منتنة ..

وشحوب غصته وحسرته وألمه لم يجد واعياً في نداءه : إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلي يوم القيامة ..


ودعواه المردودة .. وهو النبي .. فقط لتنبهنا .. هنا لم تستجب دعوة النبي فاحذروا ..
هنا وكلتم إلي أعمالكم فاحذروا ..
سألت الله ألا يجعل بأسهم بينهم شديد .. فمنعنيها ..


ويحكم .. هي مهمة الفراعين الكبري .. فراعين الأمس واليوم .. 
علا في الأرض .. استغل علوه .. استغل اعلامه .. وقوي انتاجه .. سيطرته ..
ليفرق .. فيزداد علوا..
فالبتشويش .. والتفريق .. والتشييع .. فقط لن توجد منهم قوة تهز عروشه ..
فلا يقلق الفراعين سوي جموع موحدة الكلمة ..
ولا ينغص عيش السواد .. سوي ملاحظة جموع البياض لبياضهم المشترك ..
ولا ينغص نوم الشيطان .. سوي أن يجد المؤمنين ولو قاعدة واحدة ليتفقوا عليها ..



يستضعف طائفة منهم ... 
فإذا تفرق القطيع اصبح الصيد اسهل .. 
وإذا انقطع المدد .. وشحبت النصرة .. صارت الفرائس اشهي ..
تماما كحالنا ..
تداعي الأكلة علي قصعتها .. 
قصعة الاسلام الشهية ..
أو من قلة ..
لا والله بل كثير .. ولكنكم غثاء .. كغثاء السيل ..
أنتم جموع كثر .. أنتم الجمع الأكبر .. 
ولكنكم كزخات المطر .. كل قطرة تمضي وحيدة ..
وما اقصي ما يفعله المطر بالصخر سوي ان يبلله ..
رغم أن موج البحر من قبله فتت الصخور ..


يذبح ابناءهم .. 
هي اشارة لذاك الخطر المحدق بموسي الجنين ..
ففي صورة ذهنية فيها ذبح الرضع .. 
حين يولد موسي لن نحتاج أن نفكر في سبب خوف أمه .. 


ويستحيي نساءهم ..
هي صورة قرآنية جميلة .. عظيمة الأدب ..
فدخول الألف والسين والتاء علي الفعل يأتي بمعني الطلب ..
فيتستسقي .. اي يطلب السقاية ..
ويستحيي .. أي يطلب حياءهم ..
وهنا تأتي أفعال الفرعون بلا مدي محدود .. هو يطلب من النساء كل ما ارتبط بحياءهم ..
وهنا يوقن الذهن بمدي نتن ذاك الكرسي العالي ..


هو لم يفسر .. لم يقل كما يروون يغتصب .. او يتحرش .. او .. او  .. 
فقط يتسحيي .. مضاعفة الياء .. حملت وحدها كل ما يمكن للذهن ان يتخيل .. دون ان يغادر القرآن أدبه البليغ بحرف ..


" إنه كان من المفسدين "
كعادة القرآن .. وكعادة التصور الإسلامي .. لا يصفه وحده .. بكون فاسداً ..
لم يقل يوماً غنه كان فاسقاً .. أو ظالماً .. أو مفسداً ..
دائماً يضعه في حزبه .. الأسود ..
دائماً يري السواد والشر حزباً .. والبياض والخير حزباً ..
فنجد ذاك ملمحاً واضحاً من ملامح الوصف القرآني ..
من الصابرين .. من الصالحين .. من المتقين .. من الظالمين .. من الفاسقين ..


فالأمر لا يعدو معسكرين .. حزبين متنازعين ..
لا يوجد توجهات فردية .. 
ولكل وجهة هو موليها ... 
كل الناس يغدو ... 
وهناك غاديين اثنين كما جاء في الحديث ..
موبقها .. او معتقها ..


فليس المستقر سوي مستقرين اثنين بلا ثالث .. 
جنة .. ونار .. 
ففي أي المعسكرين انت ؟؟


وهنا تقف الصورة لوهلة ..
ليدخل صوت خلفي دافئ ..
صوت يوحي بأنه ليس فقط ما يحدث في الظاهر هو ما يحدث حقاً ..
وأن هناك عالماً ثرياً .. خفي .. هو عالم الغيب .. هو مطبخ القدر ..
هو ذاك القضاء الذي يحضر بصورة ما .. قد يخفت فهمها علي المتقصي ... 
ولكنه هناك ..
يد الله تعمل في الخفاء ..
وحكمة الله تقدر ما تشاء ..
نعم .. ذاك المشهد الحالي . وربما هو ما سيتكرر خلال عدة أعوام تالية ..
ولكن هناك في عوالم الإرادة الربانية النافذة .. واقدار الحق الحكيمة .. هناك مشيئة ما يتم تحققها ...
وقصة موسي الفرد .. ليست اقصوصة شخص .. إنما حكاية أمة باسرها ..
وتقديرات بسيطة في حياة ما علي عين الله .. تغير وجه التاريخ بأسره ..
"ونريد أن نمن علي الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة "
هو الله يريد .. ولا حدود لإرادته ..
هو لايريد مجرد حصولهم علي العدالة .. أو المساواة .. أو الانتقام من الظالم ..
هو يريد رج ذاك المشهد كزجاجة من الماء والرمل ..
يريد قلب الموازين .. المستضعفون يصيرون ائمة .. قادة .. علاة .. 
ولا حدود للقدرة .. كما لا حدود للإرادة .. 
وذاك من قوانين المولي ..
هي ربتة حانية علي كل مستضعف .. وكل اقلية .. وكل مهضومي الحق في الكون ..
اذا كانت الارادة في صفهم .. 
فالامر مسألة وقت .. والتدبير موكول إلي الأقدار .. والإمامة واستاذية الكون في الأفق لكل موقن غير سطحي النظرة ..
ولا مجال لليأس بحجة قراءة الواقع .. 
يالعبثية التنهيدات امام الوضع الاسلامي ..
كل ما يجب التركيز عليه ان تكون الارادة في صفنا .. ان نستحق تلك الارادة بالامامة ..
وحينها ..
ونجعلهم الوارثين ..
ونمكن لهم في الأرض ..


ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ...