الاثنين، 25 أبريل 2011

البقرة 212 ((تاصيل تاريخي للتصور الإيماني 1))


"كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه .. وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم "
تلك الأية من الآيات التي طالما استتوقفتني واستوقفت غيري .. وهي من الآيات التي تحتاج مزيد تدبر وتدقيق نظر ... وتحتاج إلي نظرة شمولية ... إلي المقطوعة القرآنية بأكملها ..
فالله في صدد الحديث عن العلاقة بين المعسكر الاسلامي والمعسكر الظلامي .. وعن فقه الجهاد .. والتربية الربانية للصف الإسلامي المجاهد ..
لذا فهو يعقد هنا تأصيل فكري واضح وناصع وكامل .. تأصيل بمقدمة تاريخية تعود إلي البدايات القديمة قدم العالم .. تأصيل تاريخي لمن صنع بإرادته التاريخ .. واطلع بعلمه علي دقائق الأحداث فلا تأريخ كتأريخ المولي في القرآن ..
ولابد للتصور الواضح من قواعد ثابتة ليرتمي عليها ثقل العالم بتساؤلاته .. وتتفتت عليها محاولات الشياطين بشبهاتها .. ويحتكم إليها المؤمن في سجاله اليومي في مفاصلة واضحة مع تصورات الظلامية ..
وهنا احدي ابجديات التأصيل الرباني للتصور الإسلامي .. النظرة التاريخية لحقيقة الاختلاف وتطورها عبر الأزمان ..
البداية الأمة الواحدة .. الأسرة الواحدة ..  الناس كلهم أمة واحدة .. فبعث الله الرسل ..
المتدبر السطحي يظن الرسل سبب الخلاف الطارئ علي هذه الأمة الواحدة .. وتلك ايضاً شبهة الظلاميين ذوي الأفواه السكرية والأيادي النظيفة والأعين الرقراقة .. يقولون الدين سبب الخلاف .. والله سبب الدماء ..
تتبع الآية ستجد أن ارسال الرسل كان للحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه .. اي انهم كانوا مختلفين قبل الرسل .. وأن اختلافهم دون معيار للاحتكام هو سبب ارسال الرسل وليس العكس ..!!
وهنا ينبغي أن نعمق النظرة ..
إن مفهوم الأمة الواحدة .. ليس معناه أنها لا تحوي اختلافاً .. بل بالعكس إن الله هنا يجعل الاختلاف سنة كونية ثابتة .. وحقيقة خلقية مقصودة .. "ولايزالون مختلفين إلا ما رحم ربك ولذلك خلقهم" .. هو خلقهم مختلفين .. وخلقهم ليكونوا مختلفين .. والإسلام هنا يسبق تصورات العالم بأسره في تقبل الخلاف .. واتاحة الحرية الكاملة للاختلاف ..
ولكنه يضع لهذا الاختلاف معياراً .. وميزاناً .. وحكماً .. حتي لا يصاب الانسان بلوثات الحيرة .. واضطرابات التوهة بين الأراء والتصورات ..
إنه يرسم للخلاف حدوداً .. ويضع للاتفاق قواعد .. ويصنع للتصورات أرضية مشتركة ..
وتلك حقيقة النبوة والرسالات ..
لذا يتحدث مولانا عن أزمنة ما كان الناس أمة واحدة .. فالنبوة سنة ربانية وكونية قديمة قدم الاختلاف ..  مرتكزاتها ومنطلقاتها ورسالتها ثابتة ثبات  تلك الحقيقة بثبات مصدرها النوراني .. لا علاقة لها بالتغيرات التي تطرأ علي الأمم المتغيرة .. وخصائص الشعوب والأقوام .. فقد كانت النبوة قبل أن تكون القوميات والأعراق واللغات والشعوب .. كانت النبوة مذ كان الناس أمة واحدة
وكأنها ثابتة في اللاوعي الجمعي .. متوارثة في جينات الشعوب علي اختلاف الوانها فالمعين واحد .. هو الأسرة الآدمية الحواءية القديمة .. والأمة الواحدة التي تشربت القواعد الأولي للتصور .. والمرتكزات الأولي للنبوة .. وحملتها في أرواحهها واصلابها .. ونمت داخل الانسان في منطقة ما مظلمة من نفسه غريزة اساسية كغريزة الطعام والشراب .. وهي غريزة البحث عن الله .. غريزة تحسس الحق .. وتلمس التصور الرباني القويم ..
غريزة التنقيب عن المعيار القديم الذي انزله الله ولم يزل الناس أمة واحدة ...
هناك في منطقة ما مظلمة من النفوس .. منطقة بلا لغة .. ولا لون .. ولا صورة .. ولا حدود بيئية .. نتوحد فيها جميعاً ..
تردنا إلي تلك الوحدة القديمة حول المعيار الرباني الأوحد .. حول هذا "الكتاب" القديم ألذي انزل بالحق ليحكم بين الناس ..
ثم تطور التنزيل ذاك ليلائم التطور الشعوبي .. والقومي ..
ولكن اصل الكتاب لم يتبدل ,, ومرتكزات التصور الذي يحمله لم يتغير ..

فــ"بعث " الله النبيين ..
وهنا يجب أن نفيض قليلاً في لفظة النبيين في القرآن ..
جمع نبي في القرآن يأتي علي وجهين .. الوجه الأول .. النبيين .. والوجه الآخر الأنبياء ..
الأول جمع مذكر سالم يضم ياء ونون .. .. والأخر جمع تكسير "جمع غير اعتيادي" ..
وذاك من آيات الاعجاز التكنيكي في القرآن ..
فحين تأتي اللفظة علي صيغة جمع المذكر السالم .. فلابد وان تلحظ أن المقطوعة القرآنية تتحدث عن وحدة الرسالة .. والأرضية المشتركة للرسالات الربانية بمختلف ممثليها ..
وحين تأتي علي صيغة جمع التكسير .. تجد المقطوعة القرآنية تتحدث عن التنوع .. والتعددية .. كأن يتحدث المولي عن تنوع الحجج والبراهين والآيات التي حملها الأنبياء .. ورغم هذا كان التكذيب .. وسنتعرض لكل لفظة في مكانها بإذن الله ..
فحين تأتي النبيين فالمقصود ارضية النبوة وسماتها المشتركة ووحدة الرسالة .. وحين تأتي الأنبياء فالمقصود التنوع واختلاف طرق الدعوة وخصائص الرسالة تبعا لاختلاف الأقوام

ولا حاجة لنا هنا إذن في بيان أكثر عن مناسبة جمع النبيين علي هذا النحو في هذا الموضع الذي يتحدث وبصراحة عن وحدة الرسالة منذ عهد الأمة الواحدة ..

والكتاب مفرد .. والنبيين جمع .. فإن اختلف الممثلون للحقيقة النورانية .. وتنوع الحاملون لتكليف توصيل التصور الرباني للعالم .. فالتصور واحد .. ومعيار الحكم لم يتغير ..
الكتاب واحد .. والأنبياء شتي ..
الكتاب واحد .. والرسالات شتي .. والرسل كثر .. والأقوام تتعاقب ..
ويبقي الكتاب واحد ..
وصورته الثابتة الأخيرة الواحدة الباقية المحفوظة من العبث والتشويه والتلاعب .. هي تلك التي بين ايادينا بين دفتي المصحف ..
متناسقة مع ذاتها في هارمونيا عجائبية توحي في نفسها أنه محفوظ من الإضافة والحذف ..
فلم يجد علي القرآن شيء .. ولم يسقط منه شيء..

...............................................................

نزل الكتاب إذن ليضع هذا الاختلاف الأصيل بين البشر في صورته الصحية .. ويضع له اصوله وقواعده ومعيار احتكامه .. ومناطه "الحق" الذي فيه .. والحق الذي انزل به .. وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ..
وكأنه استمد الحق من مولاه .. استمداداً اصبح وكأنه يحمل معين الحق الخاص به .. تماماً كبحيرة تروي قرية بأكملها وهي انما ترتوي من النهر مباشرة ..

"وما اختلف فيه إلا الذين اوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم"
وهنا حدث نوع جديد من الاختلاف العابث .. الاختلاف المذموم .. اختلاف مرضي يقوم علي فساد القلوب .. اختلاف مناطه البغي لا اصل التنوع الخلقي ..
اختلاف في المعيار الأبيض ذاته ..
اختلاف في حقيقة الحقائق .. واصل الاصول ..
اختلاف ربما يراه من تشرب من ذاك الحق فراغاً عجائبياً .. ونزقاً اسطوريا لا محل له من التفسير ..
نوع جديد من الخلاف طرأ ..
وهذا الخلاف بالذات لا مجال لوجوده .. وذاك الخلاف بالتحديد هو الذي يقوم حوله الصراع الجهادي ..
فالله في حديثه عن الخلاف الأول العام .. وكأنه أقره ووضع له فقط معيار الاحتكام والحدود الكبري .. وكفله بحرية فريدة وجديدة علي التاريخ الانساني ..
ولكن الخلاف الآخر .. الخلاف علي الكتاب ذاته .. وعلي معيار الحكم نفسه ... وعلي أصل الأصولية بالوهية وربوبية وحاكمية الله علي الكون بأسره .. ذاك خلاف لا يسكت عنه .. فهو ينخر بجسد الكون ... ويدمر اساساته .. ويحاول اعادة الانسان إلي ظلامية التوهية .. ولوثات الحيرة المدمرة للإعمار الكوني المطلوب منه بدءاً ..
لذافهو الخلاف الذي قام حوله التأصيل الجهادي .. والمعسكر الحركي الإسلامي الأبيض ..

وياله من تاصيل رباني للمشروع الكوني الإسلامي .. ولأيدولوجية الدولة المسلمة .. ولتصور الحركة الربانية الجهادية باكملها ..

فبعد هذا الخلاف كان ظهور المعسكرين .. المعسكر المهدي "فهدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه"
لاحظ الإحالة المقارنة هنا ..
ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه .. الخلاف الأصيل المقرر الخلقي العادي ..
فهدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق  .. فالخلاف هنا خلاف في الأصول .. خلاف في الحق .. خلاف لا مبرر ولا يقرر ..
وفارق بين اختلاف بشري اصيل مناطه التنوع .. واختلاف في الأصول مناطه البغي وبطر الحق ..

وبالتالي أصبح علي هذه الفرقة المهدية إلي الصراط المستقيم الحفاظ علي هذا الحق .. والذود عنه .. وتبليغه إلي الحائرين .. وانقاذ الغافلين والمخدوعين بالظلامية والجاهلية ..
واصبح عليهم مواجهة "الباغين" في الحق .. وتحمل الأذي من معسكر الظلام الشيطاني المتكبر علي الحق ..
وذاك التحمل والصبر علي الاذي .. واحتمال الرباط علي ثغور التصور .. ومنافحة مناوشات الشبهات الظلامية .. واحياناً تحرشاته المباشرة بجسد المشروع الإسلامي ذاته ... ذاك الصبر هو الثمن الوحيد المقبول للجنة ..
"أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتي يقول الرسول والذين آمنوا معه متي نصر الله .. ألا إن نصر الله قريب "

يتبع مباشرة 

الاثنين، 4 أبريل 2011

القصص 3 (الآية 4-6)

" إن فرعون علا في الأرض وجعل اهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم "
ولأنها سورة القصص .. فلا تقرأها كغيرها .. فهي تحمل جانباً تصويرياً لا يجلب آثاره دون عيشه متصوراً حاضراً .. بشخوصه وحركاته .. بالصوت واللون .. بسرعة الحركة حيناً وتباطؤها حيناً .. وايقاف المشهد حيناً ليدلف صوت الراوي المعلق علي الحدث حيناً ..


وكمشهد حركي سريع صامت تبدأ الحكاية ..
فتخيل تلك الشاشة السوداء في البداية وصوت في الخلفية ينبئك أنك ستسمع حكاية موسي وفرعون ..
ومع اسم فرعون تبيض الشاشة لـتأتي بمشهد صامت سريع علي الوضع .. فرعون عال في الأرض ..


وكعادة الفراعين .. علو منبثق من تحطيم القاعدة المحكومة .. تجزئتها .. تفتيتها .. تشييعها ..
الفرقة ذنب الجماهير .. وخطيئة الأتباع الدائمة ..
التشيع .. والتحزب فتنة الفتن .. معول الهدم الاعظم .. وسلاح النخر في عظام الأمم ..
مجرد النظر إلي الأحوال يصيبك بغصة خانقة .. هؤلاء جميعهم يتفقون علي مبادئ اساسية .. جميعهم مستضعفون ..
جميعهم مهزومون .. جميعهم طيبون يمثلون البياض ..
ورغم هذا .. وبكل سخرية الكون .. ينشغلون بمناوشات بعضهم ..
ينشغلون بمكانهم في الصف عن المعركة الدائرة ..
ينشغلون بلون الفرس .. وعدد أزرار الزي .. وجواهر الغمد .. وعدد احزمة الدرع .. 

ينشغلون بقضايا الأمس .. ومعارك الأمس .. وفتن الأمس ..
تمضي الأعمار .. وذاك لم يزل منشغلاً بلعن معاوية ... وذاك لم يزل منشغلاً بالدفاع عنه ..
وقد مضي معاوية .. والفريقان يلبسان الأبيض .. 
والأسود هناك علي الثغر .. باسم الثغر ..


وصوت النبي .. النبي .. ذاك القرار الأبيض في أذهان الجميع .. لم يزل في الأفق يدوي : لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ..
ونتن الدعوي للفرقة لم يزل ريحها محفوظاً للنفرة علي لسان المحذر الابيض : دعوها فإنها منتنة ..

وشحوب غصته وحسرته وألمه لم يجد واعياً في نداءه : إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلي يوم القيامة ..


ودعواه المردودة .. وهو النبي .. فقط لتنبهنا .. هنا لم تستجب دعوة النبي فاحذروا ..
هنا وكلتم إلي أعمالكم فاحذروا ..
سألت الله ألا يجعل بأسهم بينهم شديد .. فمنعنيها ..


ويحكم .. هي مهمة الفراعين الكبري .. فراعين الأمس واليوم .. 
علا في الأرض .. استغل علوه .. استغل اعلامه .. وقوي انتاجه .. سيطرته ..
ليفرق .. فيزداد علوا..
فالبتشويش .. والتفريق .. والتشييع .. فقط لن توجد منهم قوة تهز عروشه ..
فلا يقلق الفراعين سوي جموع موحدة الكلمة ..
ولا ينغص عيش السواد .. سوي ملاحظة جموع البياض لبياضهم المشترك ..
ولا ينغص نوم الشيطان .. سوي أن يجد المؤمنين ولو قاعدة واحدة ليتفقوا عليها ..



يستضعف طائفة منهم ... 
فإذا تفرق القطيع اصبح الصيد اسهل .. 
وإذا انقطع المدد .. وشحبت النصرة .. صارت الفرائس اشهي ..
تماما كحالنا ..
تداعي الأكلة علي قصعتها .. 
قصعة الاسلام الشهية ..
أو من قلة ..
لا والله بل كثير .. ولكنكم غثاء .. كغثاء السيل ..
أنتم جموع كثر .. أنتم الجمع الأكبر .. 
ولكنكم كزخات المطر .. كل قطرة تمضي وحيدة ..
وما اقصي ما يفعله المطر بالصخر سوي ان يبلله ..
رغم أن موج البحر من قبله فتت الصخور ..


يذبح ابناءهم .. 
هي اشارة لذاك الخطر المحدق بموسي الجنين ..
ففي صورة ذهنية فيها ذبح الرضع .. 
حين يولد موسي لن نحتاج أن نفكر في سبب خوف أمه .. 


ويستحيي نساءهم ..
هي صورة قرآنية جميلة .. عظيمة الأدب ..
فدخول الألف والسين والتاء علي الفعل يأتي بمعني الطلب ..
فيتستسقي .. اي يطلب السقاية ..
ويستحيي .. أي يطلب حياءهم ..
وهنا تأتي أفعال الفرعون بلا مدي محدود .. هو يطلب من النساء كل ما ارتبط بحياءهم ..
وهنا يوقن الذهن بمدي نتن ذاك الكرسي العالي ..


هو لم يفسر .. لم يقل كما يروون يغتصب .. او يتحرش .. او .. او  .. 
فقط يتسحيي .. مضاعفة الياء .. حملت وحدها كل ما يمكن للذهن ان يتخيل .. دون ان يغادر القرآن أدبه البليغ بحرف ..


" إنه كان من المفسدين "
كعادة القرآن .. وكعادة التصور الإسلامي .. لا يصفه وحده .. بكون فاسداً ..
لم يقل يوماً غنه كان فاسقاً .. أو ظالماً .. أو مفسداً ..
دائماً يضعه في حزبه .. الأسود ..
دائماً يري السواد والشر حزباً .. والبياض والخير حزباً ..
فنجد ذاك ملمحاً واضحاً من ملامح الوصف القرآني ..
من الصابرين .. من الصالحين .. من المتقين .. من الظالمين .. من الفاسقين ..


فالأمر لا يعدو معسكرين .. حزبين متنازعين ..
لا يوجد توجهات فردية .. 
ولكل وجهة هو موليها ... 
كل الناس يغدو ... 
وهناك غاديين اثنين كما جاء في الحديث ..
موبقها .. او معتقها ..


فليس المستقر سوي مستقرين اثنين بلا ثالث .. 
جنة .. ونار .. 
ففي أي المعسكرين انت ؟؟


وهنا تقف الصورة لوهلة ..
ليدخل صوت خلفي دافئ ..
صوت يوحي بأنه ليس فقط ما يحدث في الظاهر هو ما يحدث حقاً ..
وأن هناك عالماً ثرياً .. خفي .. هو عالم الغيب .. هو مطبخ القدر ..
هو ذاك القضاء الذي يحضر بصورة ما .. قد يخفت فهمها علي المتقصي ... 
ولكنه هناك ..
يد الله تعمل في الخفاء ..
وحكمة الله تقدر ما تشاء ..
نعم .. ذاك المشهد الحالي . وربما هو ما سيتكرر خلال عدة أعوام تالية ..
ولكن هناك في عوالم الإرادة الربانية النافذة .. واقدار الحق الحكيمة .. هناك مشيئة ما يتم تحققها ...
وقصة موسي الفرد .. ليست اقصوصة شخص .. إنما حكاية أمة باسرها ..
وتقديرات بسيطة في حياة ما علي عين الله .. تغير وجه التاريخ بأسره ..
"ونريد أن نمن علي الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة "
هو الله يريد .. ولا حدود لإرادته ..
هو لايريد مجرد حصولهم علي العدالة .. أو المساواة .. أو الانتقام من الظالم ..
هو يريد رج ذاك المشهد كزجاجة من الماء والرمل ..
يريد قلب الموازين .. المستضعفون يصيرون ائمة .. قادة .. علاة .. 
ولا حدود للقدرة .. كما لا حدود للإرادة .. 
وذاك من قوانين المولي ..
هي ربتة حانية علي كل مستضعف .. وكل اقلية .. وكل مهضومي الحق في الكون ..
اذا كانت الارادة في صفهم .. 
فالامر مسألة وقت .. والتدبير موكول إلي الأقدار .. والإمامة واستاذية الكون في الأفق لكل موقن غير سطحي النظرة ..
ولا مجال لليأس بحجة قراءة الواقع .. 
يالعبثية التنهيدات امام الوضع الاسلامي ..
كل ما يجب التركيز عليه ان تكون الارادة في صفنا .. ان نستحق تلك الارادة بالامامة ..
وحينها ..
ونجعلهم الوارثين ..
ونمكن لهم في الأرض ..


ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ...

السبت، 2 أبريل 2011

القصص 2

"تلك آيات الكتاب المبين"
دائماً تلك المتتابعة القرآنية بعد الحروف المقطعة الغامضة ...
حديث عن كتاب الله .. لمحة عن الكتاب نفسه ..


وتلك من مقومات الأسلوب القرآني .. والتي لها في ذات الوقت لمحة خفية للمتدبر فيها ..
القرآن يصف القرآن في القرآن .. 
إن وصف القرآن بأنه كتاب مبين .. أو حكيم .. أو الحديث عن اعجاز القرآن نفسه إنما جاء بالقرآن نفسه ..؟؟!! 
وتلك طبيعة قدسية  .. الله وحده يمكنه أن يصف نفسه بما يستحق .. ويحمد نفسه بما يستحق ... ويثني علي ذاته بما هو أهله ..
ولما كان القرآن كلامه .. منه .. فلم يكن يسع الألسنة أن تحيطه وصفاً وثناءاً ..
لذا فوصفه منه .. وثناءه به فيه .. والتندر بإعجازه إنما جاء بين طياته هو .. إعجاز فوق إعجاز ..
وقوة استعلائية كبري .. تدهم النفوس .. لتسقط حصون الانكار .. 
وتدلف الكاريزما القرآنية .. والحضور الطاغي لكتاب لينافح عن نفسه بنفسه .. ليخاطب من النفس اوتاراً خفية .. ومستقبلات غيبية ..
مستقبلات تعلم .. أن ما يفعل ذاك إلا إله ,,
وما ينبثق مثل هذا الحديث إلا عن إله ..


وهي كذلك مقدمة .. واستهلال .. رائع ساطع .. استهلال يؤهل النفوس المستمعة أن انتبهي . فالقادم ليس قصصا عابثاً ..
ولا تندر حكائي عابر .. ولا مجرد اقصوصة الغاية منها المصمصمة .. أو العبرة القريبة ..
إنما هو منهج ضخم .. وقواعد تصور .. وقوانين كبري للاعتقاد .. واحدي مقومات البناء الدوواخل الانسانية ..
البناء بالقصة ..


واللمحة الخفية التي تلمع في: حديث القرآن عن نفسه ..
فالقرآن هو رسالة النبي .. وفي ذات الوقت هو معجزته ..
فهو المعجزة التي تحير العقول وتصيبها بالشلل لأنها تفوق معايير الإعتيادية .. فيؤمنون بالرسالة .. التي هي ذات المعجزة !!!
كما أن القرآن هو الهادي .. هو الهدي .. هو السبيل .. وفي ذات الوقت هو ذات الهداية .. وهو ذات الغاية ..
فهو الهداية والطريق إلي الحق .. وهو في ذات الوقت هو ذات الحق .. يهدي بنفسه إلي نفسه ...
نسق متكامل .. متناسق مع نفسه .. منسق لكل من دلف إليه  ..
فكيف يتسغرب أن يتحدث بنفسه عن نفسه ..
وأن تكون تلك سمة متتابعة الحروف المتقطعة ..



والمبين صفة ذات قطبين ..
فهي تخرج في الذهن صورتين ذهنيتين .. الأولي السطوع .. والوضوح .. فلا التفاف .. ولا غموض .. ولا حاجة للوساطة والترجمات والشروح والتفاسير مع القرآن .. فهو المبين ..
وصورة أخري كاسم فاعل .. بمعني الهداية والتبيين ..


وهي بهذا الصفة الأقرب لحالة حديث القرآن عن ذاته ..
وذاك من الإعجاز التكنيكي في القرآن ..

تري هل تلمح تلك الطبقات السردية .. layers 
فهي جملة واحدة .. بدأت بحروق مقطعة .. تلعب علي طبقتين .. طبقة اللفظ المجرد .. وطبقة النغم الداخلي المداعب لأشياء فينا لا نعيها ...
ثم حديث القرآن عن ذاته .. يلعب علي طبقتين .. طبقة بيان لفظي باقرار أن القرآن كتاب الله المبين ..
وطبقة داخلية يداعبها أن المتحدث هو القرآن نفسه .. وأن البيان جاء في ذات المبين .. تحيلنا إلي حقيقة هداية القرآن بنفسه إلي نفسه ..
وذاك يدلف بنا لي طبقة نفسية أعمق .. حين يشعرنا باكتفاء القرآن بنفسه ... واكتفاء منهجه حتي في وسائل هدايته نفسه بذات المنهج .. فالقرآن باعجازه يهدي إلي القرآن بمنهجه .. والكل قرآن ..
وذاك يجحملنا إلي طبقة أخري .. وهي طبقة الاكتمال .. فالقرآن اكمال للديانة السماوي بصورها القديمة .. والنسخة الأخيرة من مراحل تطور الديانة .. لا تطورها لأنها كانت تحتاج إلي تطور .. وإنما لحاجة البشر أنفسهم أن يتطوروا .. لذا فهي فقط كانت تنتظر تطورهم هم .. والقرآن هو البيان السماوي الأخير .. والصورة النهائية للتصور ..

وذاك التدبر نفسه يجعلنا نضع كلمة المبين في اطارها المعنوي بقطبيه ..
قطب الوضوح ..  وقطب الإبانة ..
قطب المنهج .. وقطب الهداية ...

طبقة .. نفهم فيها أن القرآن واضح ساطع جلي .. وطبقة نفهم فيها أن القرآن هو الهادي والدليل والنور الذي يستدل به في ظلمات التيه ..


إ، التدبر القرآني ليس إلي غوص في الحالة التي تغمرنا بها الآيات ..
تحليق معها حين ترفعنا بصورة ذهنية ما تدلف مع الكلمة والنغم والاتفاتة إلي طبقة .. وغوص معها حين تحملنا الجملة الكلية وتكنيك السرد .. والمتشابه والمختلف والإحالة والحمل المعنوي للفظ المستخدم إلي طبقات أخري ..
التدبر ليس سوي محاولة الإمساك بالصورة كاملة .. 
صورة السورة ...من العنوان .. للآيات .. للترتيب .. للعدد ..

ياله من اسم .. سورة .. كسور .. كبرواز يمسك الآيات والتراتبية والصور داخلها .. كعقد يلم حبات .. 
والتدبر هو الإمساك بحقيقة السورة .. صورتها الكاملة ..
أن تغلق السورة .. لست فقط متمعناً في آيات علي حدا .. أو معاني مختلفة .. لها أثر جد عظيم .. لا ننكره ..
وإنما أن تغلق السورة وقد تشربتها .. درت فيها كقصر واسع ارتسم في ذهنك خرائطه .. واحطت بسراديبه .. غصت في دهاليزه .. وركبت مصاعده .. 
وخرجت وقد خبرته ..


...............................
نتلو عليك من نبأ موسي وفرعون بالحق لقوم يؤمنون 
دخول فوري إلي القصة .. وذاك قلما يكون في القصة الطويلة في القرآن إلي في سورتين .. القصص ويوسف 
وتلك إحالة قرآنية ..
فذاك الأرتباط الذي ارتفع في الذهن بمجرد البداية السردية السريعة دون مقدمات بين يوسف والقصص .. هو ارتباط مقصود
ارتباط يحيلنا إلي مقارنة مطلوبة بين يوسف وموسي ..
مقارنات سيتجلي اثرها خلال الخوض في السورة هنا آية بعد آية .. ليرسم في النهاية صورتين كبيرتين ويضعهما معاً في مجموعة عصبية واحدة في المخ البشري ..  صورة البناء اليوسفي والبناء الموسوي 

وهنا نوع سردي من أنواع السرد القرآني .. تعريف بالشخصيات .. وخلفية تاريخية للقصة ..

موسي وفرعون .. ثم مصر قبل موسي 
وذاك غير تكنيك السرد المتبع في قصة يوسف حيث بدأ السرد بأن تفتح الستارة علي حلم .. غامض بشمس وقمر ونجوم يسجدون لطفل صغير .. يروي حلمه لأبيه .. رباه .. ما أجمل طعم القصة .. ببداية مشوقة كتلك .. لذا لا عجب أن نجد المستجدين علي الإسلام .. والأطفال يعشقون سورة يوسف دون أن يدون لماذا ..
لقد استخدم ربنا في القرآن تكنيكات سردية .. التدبر فيها وحد من وجهة نظر أدبية .. يصيبنا بالثمالة .. بالدوار .. بالتلذذ ..


وفي القصص .. وكأنه يقول كان ياماكان .. كان فيه واحد اسمه موسي .. وواحد اسمه فرعون ..
لم يقل أيهم من .. ومن البطل .. تماماً كتشويق حكايا الصغار ..


ثم خلفية تاريخية ... لو دلف إليه مباشرة لضاع التشويق ..
فلو قال مثلاً إن فرعون علا  واستعبد واستضعف .. لما انتظر السامع ظهور موسي ..
لكنه بتلك الآية .. آية نتلو عليك ..
خاض بعدها في طغيان فرعون والكل ينتظر .. من موسي .. ومتي يظهر .. 

وحين يظهر .. نعلم أن لهذا الطفل شأن ما في الحكاية .. ننتظر متي يكبر ..
ولولا أن قال نتلو من نبأ موسي وفرعون .. وأعلمنا من البداية أن موسي وفرعون هما الخصمين .. وأن بينهما معركة ما .. وأنهما طرفي القصة ..
لما شهقنا مع التابوت الخشبي الذي يفتح في بيت فرعون ليجد فيه موسي .. ولما تعلقت العيون بسكين فرعون علي رقبة موسي في قصره .. وتدخل العناية الربانية بالانقاذ .. كذبيح جديد .. وكعهد الأنبياء مع الفداء منذ اسماعيل ..
ولما ارتفعت علامات التعجب من ذاك الانسجام الأولي لموسي في بيت فرعون .. الانسجام الذي استوجب علي خلاف سورة يوسف تدخل اللفظ ا"استوي" علي الآية المتشابههة بينهما ..
ولما بلغ اشده اتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ... سورة يوسف

ولما بلغ اشده واستوي اتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين .. سورة القصص 


موسي يتربي في بيت العدو .. في بيت فرعون .. ومهما كان المصير المنتظر إن للتربية والبيئة المحيطة عواملها.. 
فكان لابد من الاستواء .. استواء يوحي بالتنظيف من أي ما قد يكون قد علق به من تلك البيئة .. ومن هذه التربية ..
أما يوسف فيتربي في بيت يعقوب .. نبي ابن نبي ابن نبي .. فأي شيء يمكن ان يعلق به ؟؟؟!!ـ

إن هناك طبقة تدبر خفية في سورة القصص .. وهي اسلوب الحكي ذاته .. التسارع الزمني حينا له مغزي خفي .. والتباطؤ في وصف بعض الأحداث حينا له معني مغمور .. لايجب أن نغفل تلك الطبقة في الحديث عن سورة القصص 

وإلا فكيف بنا هنا نفهم اسم السورة نفسها .. القصص 

إذا سمي الله السورة بالقصص .. فلتنخرس ألسنة التنظير الأدبي .. ولتصمت أقلام النظريات الروائية .. وليجلس الجميع كتلاميذ أمام السرد القصصي الرباني .. ولتنفتح اقسام الجامعات لتدريس الحكي القرآني .. والالتفات .. والعقدة .. والشخصيات .. والنمو .. والتشويق .. والغاية .. والرسالة .. فحينما يحكي الله .. إنما يحكي من يحكي بعده بما لديه من صفاقة 
افبعد حكايا المولي الحق .. هل من حكايا 

يتبع .....................