الاثنين، 25 أبريل 2011

البقرة 212 ((تاصيل تاريخي للتصور الإيماني 1))


"كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه .. وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم "
تلك الأية من الآيات التي طالما استتوقفتني واستوقفت غيري .. وهي من الآيات التي تحتاج مزيد تدبر وتدقيق نظر ... وتحتاج إلي نظرة شمولية ... إلي المقطوعة القرآنية بأكملها ..
فالله في صدد الحديث عن العلاقة بين المعسكر الاسلامي والمعسكر الظلامي .. وعن فقه الجهاد .. والتربية الربانية للصف الإسلامي المجاهد ..
لذا فهو يعقد هنا تأصيل فكري واضح وناصع وكامل .. تأصيل بمقدمة تاريخية تعود إلي البدايات القديمة قدم العالم .. تأصيل تاريخي لمن صنع بإرادته التاريخ .. واطلع بعلمه علي دقائق الأحداث فلا تأريخ كتأريخ المولي في القرآن ..
ولابد للتصور الواضح من قواعد ثابتة ليرتمي عليها ثقل العالم بتساؤلاته .. وتتفتت عليها محاولات الشياطين بشبهاتها .. ويحتكم إليها المؤمن في سجاله اليومي في مفاصلة واضحة مع تصورات الظلامية ..
وهنا احدي ابجديات التأصيل الرباني للتصور الإسلامي .. النظرة التاريخية لحقيقة الاختلاف وتطورها عبر الأزمان ..
البداية الأمة الواحدة .. الأسرة الواحدة ..  الناس كلهم أمة واحدة .. فبعث الله الرسل ..
المتدبر السطحي يظن الرسل سبب الخلاف الطارئ علي هذه الأمة الواحدة .. وتلك ايضاً شبهة الظلاميين ذوي الأفواه السكرية والأيادي النظيفة والأعين الرقراقة .. يقولون الدين سبب الخلاف .. والله سبب الدماء ..
تتبع الآية ستجد أن ارسال الرسل كان للحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه .. اي انهم كانوا مختلفين قبل الرسل .. وأن اختلافهم دون معيار للاحتكام هو سبب ارسال الرسل وليس العكس ..!!
وهنا ينبغي أن نعمق النظرة ..
إن مفهوم الأمة الواحدة .. ليس معناه أنها لا تحوي اختلافاً .. بل بالعكس إن الله هنا يجعل الاختلاف سنة كونية ثابتة .. وحقيقة خلقية مقصودة .. "ولايزالون مختلفين إلا ما رحم ربك ولذلك خلقهم" .. هو خلقهم مختلفين .. وخلقهم ليكونوا مختلفين .. والإسلام هنا يسبق تصورات العالم بأسره في تقبل الخلاف .. واتاحة الحرية الكاملة للاختلاف ..
ولكنه يضع لهذا الاختلاف معياراً .. وميزاناً .. وحكماً .. حتي لا يصاب الانسان بلوثات الحيرة .. واضطرابات التوهة بين الأراء والتصورات ..
إنه يرسم للخلاف حدوداً .. ويضع للاتفاق قواعد .. ويصنع للتصورات أرضية مشتركة ..
وتلك حقيقة النبوة والرسالات ..
لذا يتحدث مولانا عن أزمنة ما كان الناس أمة واحدة .. فالنبوة سنة ربانية وكونية قديمة قدم الاختلاف ..  مرتكزاتها ومنطلقاتها ورسالتها ثابتة ثبات  تلك الحقيقة بثبات مصدرها النوراني .. لا علاقة لها بالتغيرات التي تطرأ علي الأمم المتغيرة .. وخصائص الشعوب والأقوام .. فقد كانت النبوة قبل أن تكون القوميات والأعراق واللغات والشعوب .. كانت النبوة مذ كان الناس أمة واحدة
وكأنها ثابتة في اللاوعي الجمعي .. متوارثة في جينات الشعوب علي اختلاف الوانها فالمعين واحد .. هو الأسرة الآدمية الحواءية القديمة .. والأمة الواحدة التي تشربت القواعد الأولي للتصور .. والمرتكزات الأولي للنبوة .. وحملتها في أرواحهها واصلابها .. ونمت داخل الانسان في منطقة ما مظلمة من نفسه غريزة اساسية كغريزة الطعام والشراب .. وهي غريزة البحث عن الله .. غريزة تحسس الحق .. وتلمس التصور الرباني القويم ..
غريزة التنقيب عن المعيار القديم الذي انزله الله ولم يزل الناس أمة واحدة ...
هناك في منطقة ما مظلمة من النفوس .. منطقة بلا لغة .. ولا لون .. ولا صورة .. ولا حدود بيئية .. نتوحد فيها جميعاً ..
تردنا إلي تلك الوحدة القديمة حول المعيار الرباني الأوحد .. حول هذا "الكتاب" القديم ألذي انزل بالحق ليحكم بين الناس ..
ثم تطور التنزيل ذاك ليلائم التطور الشعوبي .. والقومي ..
ولكن اصل الكتاب لم يتبدل ,, ومرتكزات التصور الذي يحمله لم يتغير ..

فــ"بعث " الله النبيين ..
وهنا يجب أن نفيض قليلاً في لفظة النبيين في القرآن ..
جمع نبي في القرآن يأتي علي وجهين .. الوجه الأول .. النبيين .. والوجه الآخر الأنبياء ..
الأول جمع مذكر سالم يضم ياء ونون .. .. والأخر جمع تكسير "جمع غير اعتيادي" ..
وذاك من آيات الاعجاز التكنيكي في القرآن ..
فحين تأتي اللفظة علي صيغة جمع المذكر السالم .. فلابد وان تلحظ أن المقطوعة القرآنية تتحدث عن وحدة الرسالة .. والأرضية المشتركة للرسالات الربانية بمختلف ممثليها ..
وحين تأتي علي صيغة جمع التكسير .. تجد المقطوعة القرآنية تتحدث عن التنوع .. والتعددية .. كأن يتحدث المولي عن تنوع الحجج والبراهين والآيات التي حملها الأنبياء .. ورغم هذا كان التكذيب .. وسنتعرض لكل لفظة في مكانها بإذن الله ..
فحين تأتي النبيين فالمقصود ارضية النبوة وسماتها المشتركة ووحدة الرسالة .. وحين تأتي الأنبياء فالمقصود التنوع واختلاف طرق الدعوة وخصائص الرسالة تبعا لاختلاف الأقوام

ولا حاجة لنا هنا إذن في بيان أكثر عن مناسبة جمع النبيين علي هذا النحو في هذا الموضع الذي يتحدث وبصراحة عن وحدة الرسالة منذ عهد الأمة الواحدة ..

والكتاب مفرد .. والنبيين جمع .. فإن اختلف الممثلون للحقيقة النورانية .. وتنوع الحاملون لتكليف توصيل التصور الرباني للعالم .. فالتصور واحد .. ومعيار الحكم لم يتغير ..
الكتاب واحد .. والأنبياء شتي ..
الكتاب واحد .. والرسالات شتي .. والرسل كثر .. والأقوام تتعاقب ..
ويبقي الكتاب واحد ..
وصورته الثابتة الأخيرة الواحدة الباقية المحفوظة من العبث والتشويه والتلاعب .. هي تلك التي بين ايادينا بين دفتي المصحف ..
متناسقة مع ذاتها في هارمونيا عجائبية توحي في نفسها أنه محفوظ من الإضافة والحذف ..
فلم يجد علي القرآن شيء .. ولم يسقط منه شيء..

...............................................................

نزل الكتاب إذن ليضع هذا الاختلاف الأصيل بين البشر في صورته الصحية .. ويضع له اصوله وقواعده ومعيار احتكامه .. ومناطه "الحق" الذي فيه .. والحق الذي انزل به .. وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ..
وكأنه استمد الحق من مولاه .. استمداداً اصبح وكأنه يحمل معين الحق الخاص به .. تماماً كبحيرة تروي قرية بأكملها وهي انما ترتوي من النهر مباشرة ..

"وما اختلف فيه إلا الذين اوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم"
وهنا حدث نوع جديد من الاختلاف العابث .. الاختلاف المذموم .. اختلاف مرضي يقوم علي فساد القلوب .. اختلاف مناطه البغي لا اصل التنوع الخلقي ..
اختلاف في المعيار الأبيض ذاته ..
اختلاف في حقيقة الحقائق .. واصل الاصول ..
اختلاف ربما يراه من تشرب من ذاك الحق فراغاً عجائبياً .. ونزقاً اسطوريا لا محل له من التفسير ..
نوع جديد من الخلاف طرأ ..
وهذا الخلاف بالذات لا مجال لوجوده .. وذاك الخلاف بالتحديد هو الذي يقوم حوله الصراع الجهادي ..
فالله في حديثه عن الخلاف الأول العام .. وكأنه أقره ووضع له فقط معيار الاحتكام والحدود الكبري .. وكفله بحرية فريدة وجديدة علي التاريخ الانساني ..
ولكن الخلاف الآخر .. الخلاف علي الكتاب ذاته .. وعلي معيار الحكم نفسه ... وعلي أصل الأصولية بالوهية وربوبية وحاكمية الله علي الكون بأسره .. ذاك خلاف لا يسكت عنه .. فهو ينخر بجسد الكون ... ويدمر اساساته .. ويحاول اعادة الانسان إلي ظلامية التوهية .. ولوثات الحيرة المدمرة للإعمار الكوني المطلوب منه بدءاً ..
لذافهو الخلاف الذي قام حوله التأصيل الجهادي .. والمعسكر الحركي الإسلامي الأبيض ..

وياله من تاصيل رباني للمشروع الكوني الإسلامي .. ولأيدولوجية الدولة المسلمة .. ولتصور الحركة الربانية الجهادية باكملها ..

فبعد هذا الخلاف كان ظهور المعسكرين .. المعسكر المهدي "فهدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه"
لاحظ الإحالة المقارنة هنا ..
ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه .. الخلاف الأصيل المقرر الخلقي العادي ..
فهدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق  .. فالخلاف هنا خلاف في الأصول .. خلاف في الحق .. خلاف لا مبرر ولا يقرر ..
وفارق بين اختلاف بشري اصيل مناطه التنوع .. واختلاف في الأصول مناطه البغي وبطر الحق ..

وبالتالي أصبح علي هذه الفرقة المهدية إلي الصراط المستقيم الحفاظ علي هذا الحق .. والذود عنه .. وتبليغه إلي الحائرين .. وانقاذ الغافلين والمخدوعين بالظلامية والجاهلية ..
واصبح عليهم مواجهة "الباغين" في الحق .. وتحمل الأذي من معسكر الظلام الشيطاني المتكبر علي الحق ..
وذاك التحمل والصبر علي الاذي .. واحتمال الرباط علي ثغور التصور .. ومنافحة مناوشات الشبهات الظلامية .. واحياناً تحرشاته المباشرة بجسد المشروع الإسلامي ذاته ... ذاك الصبر هو الثمن الوحيد المقبول للجنة ..
"أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتي يقول الرسول والذين آمنوا معه متي نصر الله .. ألا إن نصر الله قريب "

يتبع مباشرة 

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

يتبع مباشرة !?

غير معرف يقول...

!