الخميس، 15 سبتمبر 2011

سورة الأعراف (الحلقة الرابعة) قصة آدم وابليس 1

قبل الدخول إلي قصة آدم .. يعمد القرآن إلي رفع الواقع .. وإحالة الواقع عبر الأزمنة ورده إلي الاصل الأول .. إلي حقيقة الصراع القديم


"ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون"
هو رفع للواقع الحالي يتجاوز باتساع الحمل المعنوي لألفاظه حجب الزمان والمكان ..
حالة التمكين للبشر في الأرض .. سيطرة الإنسان .. أو شعوره الواهم بالسيطرة علي الأرض .. انخداعه بالتمكين .. وألفته للمعايش فتوهم بقاءه وخلوده ..
لم يرد البشر حالة التمكين التي تزداد يوما بعد يوم إلي رب الأرض والسموات ..


أحياناً نتساءل .. هل كان بإمكان العقل البشري وحده دون إلهام وتوفيق وتمكين رباني أن يصل إلي اكتشاف واحد أو أختراع واحد مما توصل إليه ..
إن المنطق العقلي أحياناً لا يتمكن من تصديق حالة التمكين العجائبية التي وصل إليها البشر علي الأرض ..
ولا يتمكن أحيانا من استيعاب أن بعض النظريات أو الإكتشافات هي نتاجات عقول البشر .. دون بناء علي علوم مسبقة ..


فقط التصور الإسلامي يرد العلوم والفنون وحالة التمكين الحضاري الشاسع الحالية والمعايش (وسائل تسهيل العيش) إلي التوفيق الرباني والقدر الإلهي في أمة الإنسان ..
الله هو المعطي الغائب دائماً في معادلات الإنسان .. في تصوراته وتفسيراته .. لذا تبقي كثير من أسئلته بلا أجوبة .. والعديد المتزايد من مشكلاته بلا حلول ..
الله هو السر الذي تنفك به شفرات الكون المستغلقة .. وتنفتح به السراديب المدفونة .. ويتسق به التصور البشري مع الكون ومع نفسه ..
الله هو ما يجمع خيوط الكون بأسرها معا .. ما يضفي علي الكون والحياة والخليقة معني وغاية وتفسير موزون ..


واي محاولة لفلسفة أو تصور يغيب فيه الله عنه .. ستكون عبث بلا طائل .. وأفكار تائهة شريدة مبعثرة لا جامع بينهما .. وإجابات تمنح المزيد والمزيد من التساؤل ..


ايما سؤال أعياك .. ابدأ دائماً في الإجابة من الله .. حتما ستتضح الصورة .. ويتسق التفسير ..


ولكن قليلا ما تشكرون ..
شكر .. رد النعمة إلي منعمها .. والملكية إلي مالكها .. وحالة التمكين إلي إرادة الله التمكين للبشر ..


ثم عودة إلي الزمن القديم .. أو ربما إلي ما قبل أزمنة البشر .. عودة لتأصيل التصور البشري ..

هو إحالة ورد مرحلة التمكين إلي مرحلة التكوين ..
"ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا ابليس لم يكن من الساجدين "
الخلق ايجاد من عدم .. والتصوير احالة من حالة لحالة ..
إرادة الله في الإيجاد .. وإرادة الله في الصورة الآدمية الحالية ..


وابليس ذاك لم يكن من الملائكة .. بل كان من الجن .. مخلوق من نار .. ولكنه رفع  في الدرجات حتي صار بمنزلتهم .. فنسب إليهم وجمع معهم في الذكر..
فعند الله ليست الأوصاف والنعوت بالقومية والانتساب ..  فالملائكية نعتا لمن حمل صفتهم ..
ولو تخيلت هذا لعلمت وطأة اللفظ اهبط منها ..
نعم هو هبوط من منزلة الملائكية .. ومن حضرة القرب .. ومن مكانة الولاية ..  ليس فقط هبوط من السماء إلي الأرض .. أو من الجنة إلي الدنيا .. فذاك خروج .
وذاك هو المعني في مرافقة اللفظ اهبط للفظ اخرج ..


الملائكة تسجد لآدم .. ياله من تكريم ... إن كلنا يسعي لحالة الملائكية .. للكمال الملائكي ..
ولكن الله يحفر في أذهاننا صورة .. صورة الملائكة ساجدة لآدم ..
فالملائكة مجبولة علي الطاعة .. مجبرة عليها .. ليس لها اختيار ..
أما الإنسان فقد حمل داخله نفخة من روح الله .. نفخة اكسبته بضعة من إرادة .. من حرية .. من الطاعة انطلاقا من المحبوبية لا القهر .. الطاعة انطلاقا من الطواعية .. من الائتمار الطوعي .. لا من التسيير الجبري ..
وذاك عند الله أحب .. واكرم ..

إن الله يحب من يطيعه وهو قادر أن يعصيه .. بل يرفع من كانت المعصية منه اقرب ورفضها طواعية لله ..
وتلك حكمة بالغة وأمل منقذ لأهل الابتلاء بالذنوب ..
فإن بعض ممن ابتلاهم الله بذنب او أكثر .. يتمني لو رفع عنه الذنب .. أو حفظه الله من نداءات الشهوة .. واخرس منطلقات الرغبة فيه .. ويتمني البعض العصمة ..
لا يعلمون أن ترك الذنب طواعية لله وهو ميسر .. متحققة أسبابه .. ممهدة سبله .. متعالية نداءاته .. احب عنده من ألف طاعة ملائكية قسرية ..
وترك الذنب بعد الاعتياد عليه لله .. ربما يحملك إلي مقامات لم يصل إليها من اعتاد الطاعة ..
إن الذنوب أحيانا تكون سبل الوصول .. تحمل لك مفاتيح الدخول لحضرة الولاية ..
فما التقوي إذن إن لم يكن للذنب نداء .. ولسبيله غواية ..
وما طعم الجنة إن لم يكن قبلها جهد وعناء ...
إن المذاقات نسبية ياسادة .. فذات الطعام يكون اشهي بعد الصيام .. ونفس الشراب يصير أحلي بعد العطش ..
والجنة من جماليتها ماكان في الدنيا من الجهد وحمل النفس علي المكروه .. فلا تسلبوا الجنان بعض جماليتها ..

"لم يكن من الساجدين "
هكذا هو التوجه الابليسي .. والنفسية الإبليسية .. والشعور الابليسي العام نحوك يا ابن آدم منذا الأزل ..
لن نقولها كما كانوا يرددونها لنا في المدارس الابتدائية .. ابليس يريدنا أن ندخل معه النار ..

الأمر أكبر من هذا .. هو لايريد لك رفعة من اي لون .. يكره ارتقاءك .. يحزنه تقدمك ..
أتدري ماهو أكثر ما يغيظه .. ويسعي طاووس الملائكة القديم لمنعه بكل جهده ..
أن تكون أقرب من الله ..

فما حقيقة لعنته وطرده .. سوي ولاية الله القديمة لآدم ..
إن ابليس لا يسعي لافساد الأرض .. فهو لايعبأ بالأرض ..
إنما يسعي لافساد علاقتها بالسماء .. يسعي لقطع الاتصال بالنور ..
يسعي لكلمة وحيدة سمعها وحده مرة .. ويريد أن يسمعها آدم كل لحظة .. كلمة اهبط .. اهبط .. اهبط ..

لو كان ابليس جنيا مخلوقا للغواية منذ البدء لكان أهون علينا ..
ولكنه كيان ذاق القرب .. ذاق طعم السماء .. لمس هول الحضرة ..
ثم هبط ...
هبط فكان هبوطه مضاعفاً ..
تماما كالغائص في أعماق البحر .. ولكن من فوق جبل ..
لن يكون ابدا كطاقة الغائص من سطح الأرض ..

وابليس كان عاليا .. كان قريبا .. كان سماويا ..
وهبط ..
هبط بحقد أكبر .. وحسد أعظم .. وطاقة أشد ..
هو يراك انت سبب هبوطه .. سبب سلبه نعيمه القديم إلي الأبد ..

يراك سبب شقائه الأزلي ..
يملئه الثأر ... ليكون هو ايضا سبب شقاءك ..

"قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين "
تلك الآية تحمل لمسة جميلة كثيرا ما نغفل عنها ..
لو سئلت أحدهم لماذا طرد الله ابليس .. لأجابك لأنه رفض السجود لآدم ..
ووالله لم يفعل ؟؟
إن الله لم يطرد ابليس بعد أن رفض السجود لآدم .. حاشاه الحليم أن يؤاخذ بالعصيان هكذا ..
وتأمل كل المقاطع القرآنية التي تحدثت عن تلك الحادثة المحورية ..
دائما تجد ذاك الحوار بعد السقوط .. السؤال عن السبب وهو أعلم به ..
ولكنها لمراجعته .. عله يتوب .. عله يعود .. عله يستغفر ... لعله يسارع في تدارك الأمر واللحوق بركب الساجدين ..

بل إن تركيب هذه الأية أكثر ما يدل علي ذلك ..
فلو رأينا أن حرف لا في ألا تسجد بمعني النفي لفسد المعني لأنه سيصير .. ما منعك أن لا تسجد .. ولا شيء منع ابليس أن لايسجد .. إنما سيكون صواب الكلام .. ما منعك أن تسجد ؟؟!!
ولكن دعونا نغير أماكن الوقف .. ونقرأها هكذا كما قرأها بعض المفسرين
ما منعك ؟؟   .... (وقف) .. ألا تسجد إذ أمرتك ..
وكأن ألا هنا استفهام "وهو أعلم" ..  للحث ..
كأن تقول ألا تفعل كذا من أجلي من فضلك ؟؟

وما منعك .. يمنحه فرصة للتبرير .. للاعتذار .. للعتبي .. ولكنه لم يفعل ..

إن ابليس طرده الاستكبار .. طرده التأله علي الله .. طرده محاكمة حكمة الله بمحدودية عقله .. طرده محاولته العابثة رد الحكم الرباني ..
لم يطرده العصيان .. إنما طرده منطلق العصيان ..

وتلك الآية قد حملت بضعة سمات للأبليسية الأولي هي السبب في سقطته وشقوته .. حملت منطلقات العصيان .. التي هي اسباب الطرد والهبوط .. حينها .. وللأبد .. لابليس ولغيره ..

- إن خطيئة ابليس العظمي ..أنه قد ظن أنه لايوجد متسع للجميع .. وظن أن حضرة القرب من الله لا تكفي لكل الواردين ..
راي في تكريم آدم له إهانة .. وفي رفعة آدم حطة منه ..
وفي مشاركة المخلوق الجديد .. مزاحمة وضيق ..
ذاك منعطف الطاووسية .. وعثرة الأنا النرجسية ..
وتلك صفة قد سربها ابليس لبعض الآدميين .. فظنوا ألا متسع للجميع ,, وأنه لايوجد ما يكفي للكل ..
وظنوا أن الأصل في الحياة الطوابير .. ومن يقف أولا ؟؟ .. وأن غاية العيش التراتبية .. ومن هو الأفضل ؟؟

ومن سماته ايضا تزكية النفس بمعني الظن بخيريتها .. أنا خير منه .. وكأنه في مقابلة عمل لمدير لا يعلم شيئاً عن المتقدمين ..
تماما كبعضنا .. يرفع سيرته الذاتية إلي الله معترضا علي حكمته في وضعه المعيشي .. يتساءل عن مكانته ..
يري أنه مبخوس الحق ..

وبعضنا يري أحيانا في الإلتزام تضييعا لبعض مواهبه .. أو تضييقا علي لامحدودية الابداع فيه ..
وكأن الله حاشاه لا يعلم مدي امكاناته وقدراته ومواهبه ..
اطمئن يافتي .. واهمس للنفس "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير"
"ولا تزكوا أنفسكم هو اعلم بمن اتقي "
"ألم تر إلي الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء"

كم مرة في الحياة وجدت أحدهم يقترح عليك في تخصصك وهو لايفقه فيه شيئاً .. فوجدت نفسك تري الاقتراح والمساءلة إهانة .. ووجدت نفسك تدعوه أن يأتي هو ليفعلها .. بل ربما اعتذر الطبيب عن علاج المريض المتفيهق الذي يحشر أنفه ويحاكم علم الطبيب ..
ويحنا .. كم نفعل هذا مع الله كل يوم ..
حين نحاكم اقداره .. حين نقول لو ..؟؟ .. ولماذا ؟؟ .. وماذا لو يحدث كذا ..؟؟
حين نتفيهق ونتأله .. ونقترح علي قضاء الحكمة فينا .. ونعاتب العناية الربانية .. ونعترض علي الإرادة والمشيئة القدسية ..



إن ابليس يحاكم الحكمة .. ويساءل علم الله ..
وكأنه يعيد تقييم معايير الله بمفاهيمه المحدودة .. وتلك أيضا قد سربها لبعض بني آدم ..
تراهم يتألهون .. يتفلسفون .. يعملون عقولهم المحدودة في احتواء الحكمة اللامحدودة ..
ثم يحاكمونها .. يعترضون .. يقترحون .. يقيمون .. يرفعون لله معاييرهم ويحاكمون دينه وقضاءه وشريعته بها ..
والله وقرآنه ودينه .. يستدل به ولا يستدل عليه ..
يحكم ولا يُحَاكَم ... يزن ولا يوزن ..


ومن خطاياه ايضا .. الحكم .. تعيير الأشياء والأشخاص .. القولبة ..
تلك أيضا من سمات النفس الإبليسية .. الحكم علي الآخر .. محاكمته بقوانينك ..
قولبته في قالب ووضع ملصق عليه بالمقادير والسعرات ..
أن تجعل الآخرين كعبوات في ذهنك .. ذاك كذا وهذا كذا ..
"الله يحكم بينهم "
"ولا تقولوا لمن ألقي إليكم السلام لست مؤمنا............... كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم "

يتبع
"إلا أن يشاء الله"

الثلاثاء، 13 سبتمبر 2011

سورة الأعراف (الحلقة الثالثة) 4-9

الأعراف كما ذكرنا تقوم علي مرتكز واحد وهو عرض الفريقين .. والوقوف بالاطلاع المضيء بينهما .. ((حالة الأعراف))
وتتميز عن غيرها من السور ببضعة ميزات .. منها حالة الأممية .. والتركيز علي الجمعي أكثر من الفردي ..
فنجد فيها تكرار لكلمة أمة .. وقصص الأمم السابقة .. فهي سورة للمسار الجمعي اكثر من كونها سورة للمسار الفردي ..
هي سورة للتزكية الجمعية للأمة بأسرها .. التزكية الجمعية كحالة إيمانية تسري في الجموع لا بقصد التشريع المجتمعي ..
"
"وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون "
وذاك أحد محاور السورة .. كما ذكرنا من قبل .. التصور الإيماني في التاريخ .. في حياة الأمم وآجالها وأقدارها ..
تلك اية محورة إجمالية .. سيأتي تفصيلها في ذكر بعض تلك القري والأمم الهالكة ..

هو البأس الرباني يتسلل .. العقاب النهائي يدلف علي حين غفلة ..
تماما كغفلتهم المعنوية.. كغفلتهم عن آيات الله واستمرائهم للعصيان وألفتهم لحياة الدعة والخمول والروتين الدوار .. يأتيهم العذاب في احدي غفلتين .. غفلة الليل الإضطرارية لأجسامهم بالنوم .. 
وغفلة النهار الإرادية بالقيلولة ..

فلتحذر من طول الأمل .. والاغترار بحلم الله .. فعقاب الله من خواصه المباغتة .. وأنه لا يأتيك حين تنتظره فانتظاره دليل علي بعض الحق فيك ..
ولكن احذر ذاك الاستدراج .. ألا ينزل العذاب عليك بالعصيان .. فيخفت انتظارك حتي يتلاشي .. فتألف العصيان ..
وحينها فقط .. حين تغفل .. حين تسقط تحصنات استعدادتك .. وبقايا التوبة فيك ..
حينها فقط .. حين تنكشف مواطن الضعف فيك .. حين تكون مشكوفا تماما .. غافلا تماما .. حين تكون في أوج نجاحاتك ..

في أوج انسيابك في سنة الغفلة .
حينها ينزل العذاب ..


وربما ينزل حين لا ينفع نفس ايمانها .. مصحوبا بالغرغرة حين لا تنفع التوبة ...

"فما كان دعواهم إذا جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين "
هو اعتراف يحسم القضية .. اعتراف تم انتزاعه من المناطق المظلمة من النفوس .. من السراديب الللامأهولة ..
اتعراف خارج عن التنمقات والتجملات .. خارج عن استكبارهم .. خارج عن الهيئة والرسم والوصف والمكانة الاجتماعية ..
اعتراف حين يتعري الضعف البشري أمام العذاب الذي يناسبه ..
فمن خلقه يعلم جيدا كيف يعريه ..
فبأس الله يعرينا .. يكشفنا أمام أنفسنا ..
يسحق حججنا .. ومبرراتنا .. وتجملاتنا .. ومجاذبات الشهوة فينا ..
بأس الله يوقفنا أمام مرايا شفافة .. يضعنا علي موازين الحق ..
يجعلنا نحن الحكام بعد أن يمنحنا معياراً حقيقية ويسحق ماعداه من معاييرالزيف والخواء ..

بأس الله يجعلنا نعلم ما يستحق .. ومالا يستحق .. فما يستحق ليس سوي ما كان الحق من سماته (يستحق - حق ) .. ما يستحق ليس سوي ما كان حقيقياً في ذاته .. وليس من حقيقي سوي ما يبقي .. وليس ما يبقي سوي ما كان من الآخرة أو للآخرة ..

بأس الله يعرينا .. ويعري دنيانا ..
يمنحنا أكواداً ومفاتيح لأبواب الحيرة .. يعلمنا شفرات ما استغلق علينا من الأسئلة ..
فأحيانا تبقي كثير من الأسئلة معلقة .. حتي ينزل البلاء .. حينها فقط نتمكن من الإجابة ..
وحين يرفع البلاء نعود لننسي .. أو نتناسي ..
بأس الله يكشف الغطاء .. فتتجاوز ابصارنا حجاب المادة والغفلة وبريق الزيف .. إلي عمق الحقائق ..

اتدري ايها الإنسان ما أنت حقا؟؟ .. انظر إلي نفسك في عمق البلاء ..
اتود أن تعلم اجابات اسئلتك المعلقة .. لا تحاول الإجابة عليها برفاهية الغفلة .. إنما حاكمها بواقع البلاء ..

إن الإجابات الصحيحة .. لا تخرج إلا في البلاء ..
لكنها احيانا تخرج .. في البلاء الأخير .. حين لن تنفعك الإجابة ....

" فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين . فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين " 
كعادة الأعراف .. كمرتكزها  .. رسم الصورتين بحيادية .. وبمجرد النقل الكامل للصورة يحدث الحكم المنطقي .. فهو حكم دون حكم ..
بسؤال الأمة .. وسؤال الرسول .. حين انكشاف الزيف .. حين لا سبيل للكذب .. حين تتعري الحجج .. وقتها يحصل الحكم العدل .. ويرضي به كل الأطراف ..
فلن تسمع يوما عن رجل من أهل النار ينادي بأنه كان يستحق الجنة .
تقف حالة الأعراف بين الرسول وأمته ..
بسؤال الطرفين .. بإكمال الصورة .. بالإجابة علي التساؤلات العالقة ..
ليس سؤال عن جهل حاشاه .. وليس سؤالا استفساريا استعلاميا .. إنما سؤال اقامة الحجة .. سؤال رسم السورة وتحديد معالم القصة علي ألسنة معايشيها أنفسهم .. واخراج الحكم منهم ذاتهم ..
هو سؤال عن علم وحضور .. بعلم .. وما كنا غائبين ..

" والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون . ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون"
وداعا موازين الدنيا المقلوبة .. وداعا معايير الخواء والإدعاء .. وداعا للغثاء الثقيل .. والزبد المتراكم ..
هناك الميزان الحق .. حيث ساقي ابن مسعود أثقل من أحد .. وحيث الرجل العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة كما في الحديث ....
هناك حيث درهم اثقل من الف درهم .. وحيث كلمة اثقل من سبعين سنة .. وحيث ركعة ارجح من ألف ركعة ..
هناك حيث المعنوي يتجسم وزنا ..
حيث يوزن الصدق ..
حيث إيمان ابي بكر يرجح إيمان أمة بأسره .. بم ؟؟ .. بشيء وقر في صدره ..
حيث يوزن شيء ابي بكر .. ؟؟ .. حيث جناح بعوضة اثقل من دنيانا .. كما في الحديث ..
حيث كلمة صدق ارجح من كتب مجلدة فاخرة الطباعة .. وحيث حرف لفظ بصدق ارجح من الاف الخطب الحنجرية الرنانة ..
حيث أعمال كالجبال لا تزن الذرة يومئذ .. حين تجعل هباءا منثوراً .. لأناس إذا خلوا بالمحارم انتهكوها ..

حيث الصدق هو العملة الرائجة .. هو الورقة الفائزة ...
حيث القلوب هي المعيار لا أجساد وحركات ..
هو الوزن الحق .. والفوز الحق .. والخسران الحق ..
المفلح من أتي بالأثقل صدقاً .. والخاسر هو ذاك الذي ظلم نفسه بالاستكبار عن الحق والارتماء في ركام الزيف الفارغ ..

 هل اعددت في دواخلك شيء منك قد يوزن ..؟؟ .. هل لديك من نفسك ما قد يرجح ؟؟
هلا حاسبت دنياك بميزان الآخرة لعلك تحمل بضعة جرامات صدق تنجو بهم هناك
.................... 

سورة الأعراف(الحلقة الثانية) 34-36

هي سورة الأعراف .. سورة تسري في ىياتها نكهة موحدة .. نكهة الأعراف .. سمة موحدة .. موضوع موحد .. ومرتكز واحد تقوم عليه السورة ..
هذا المرتكز يتجلي في عنوانها .. الأعراف ..
فما الأعراف إلا كيان ما .. بين الجنة والنار .. بين المآل النهائي لأهل البياض .. وأهل الظلام ..
الأعراف هو مقتطع من الدنيا .. أنموذج مصغر .. ماكيت للدنيا .. فما حياتنا الدنيا إلا تلك التمزيقة .. الدوامة .. بين البياض والسواد ..
بل الإنسان نفسه .. يحمل في نفسه الأعراف .. حين يلقي نظره إلي الحق ويصرف نظره تلقاء الباطل .. بين لمة الملك ووسواس الشيطان ..
سورة الأعراف .. هي تلك المقارنة المعقودة طوال السورة بين المتضادين . بين الزوجين .. بين الحق والباطل .. بين التحريم والحل .. بين الأمر والنهي ..
بتدقيق النظر في السورة تجدها تحمل هذا الرابط وهذا التسلسل ,,
فمثلا إن الله لا يأمر بالفحشاء .. تعقبها .. أمر ربي بالقسط ..
وقل من حرم زينة الله .. يعقبها .. إنما حرم ربي الفواحش ..
فمن اتقي واصلح .. يعقبها .. والذين كذبوا ..
مناطها .. فريقاً هدي .. وفريقا حق عليه الضلالة ..
إن سورة الأعراف .. هي أعراف القرآن .. هي التي تتجلي فيها الثنائية .. الوقوف علي اعتاب الطريقين بالتأمل .. وسنذكر ذلك بالتفصيل أثناء متابعة أيات السورة في سريانها ..
تري من أولئك الواقفين علي الأعراف ..  ولماذا لم ينتموا لأي الفريقين ..
وهل هناك منطقة وسطي بين البياض والسواد ..
لكي يتضح موقف أولئك الأعرافيين .. ندلف إلي التصوير القرآني الللازمني .. لحقبة ما من حقب الآخرة ..

" ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون "
يرتكز التصور الإسلامي للتاريخ علي فكرة أن الأمم كالأفراد .. لها أقدارها الخاصة ..
لها آجالها .. تقديرات الله فيها ..
ليس قدر الأمم نتاج مجموع أقدار أفرادها .. كما ليس تشريعاتها مجموع الأوامر والنواهي الفردية ..
إنما للأمم أقدار متباينة ومتداخلة مع مقدرات اللأفراد .. وتشريعات خاصة منفصلة عن التشريعات الفردية ..
فنسمع عن فروض الكفايات .. وفرض العين .. وفرض الجمع ..

التصور الإسلامي يري الأمة كشخص اعتباري بالمصطلح القانوني .. يقوم ويسقط .. وينجح ويفشل .. ويعبد .. ويتقي ويعصي ..
يحل عليه السخط .. وينال الرضا .. شخص له عيوب وميزات .. نجاحات وفضاءل .. كما له هفوات وفجرات ..
شخص اعتباري لابد له من تربية جمعية ربانية .. وتزكية خاصة تقوم علي ارادته هو ..
هكذا ينظر التصور الإسلامي إلي التاريخ وإلي الأمم ..
وهكذا يحاكم الحضارات .. بمفهوم الشخص الإعتباري ..
الحضارات كالشخوص .. لا خير محض ولا شر محض .. بما فيها الحضارة الإسلامية والأمة الإسلامية القديمة ..

كثير منا تنتابه الشكوك حين ينظر في تاريخ الدولة الإسلامية .. شبهات ترتمي في عقله .. لأنه لم يحاكم التاريخ الإسلامي بالتصور الإسلامي ذاته ..
لم يحاكمه بمفهوم الشخصنة الإعتبارية ..
بمفهوم السيرة الذاتية .. تماما كما ننظر إلي تاريخ الأفراد .. فنري يد الله تعمل .. ترفع وتضع .. بحكمة ..

إن حكمة الله لم تغب يوما عن الحدث التاريخي .. فلم يحدث في كون الله ما هو خارج عن مشيئته الكونية .. وإرادته التدبيرية .. حتي وإن لم يكن في معيار الحب والبغض .. والرضا والسخط موافقا لرضاه .. ولكنه لم يخرج يوما عن مشيئته وحكمته ...

الأمم كالأفراد .. إذا جاء أجلها .. لن ينفعها فكاك وفرار .. لن ينفعها مداواة وانعاش .. لن ينفعها إيمانها إن لم تكن أمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ..
لن تقدم ولن تؤخر ..
الأمم كالأفراد .. قد تمرض قبل الموت .. وقد تتوعك .. وقد تشيب ..
تفتر وتشتر .. تشب وتغفل ..
الأمم كالأفراد .. تأتيها رسائل إيقاظ وهتافات هزة ...
الأمم كالأفراد .. تنزل بها بلاءات استرجاع .. فمنها من يفيق .. ومنها من يستمر في غفلته ..
الأمم كالأفراد لها شهواتها ومحارمها .. بل لها شيطانها الموسوس .. وملاكها السابح بالخير محفز ..
ذاك  هو التصور الإسلامي عن الأمم والحضارات .. والتاريخ ..

"يابني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقي واصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون "

هو نداء للأمة الكبري .. أمة الإنسان .. فالإنسانية أمة في ذاتها .. أيضا لها أقدارها .. ((إلا أمم أمثالكم ))
هو نداء تذكيري بوحدة النفس الإنسانية .. وحدة المصدر .. وحدة الأب .. وحدة الشهوة والصفاء معا .. ناداهم بآدم .. الذي قد ذكر قصته مع ابليس منذ قليل .. وكأنه يحيل الذهن إلي أنكم أبناء هذه القصة .. وهذا الصراع ..
أنكم ابناء النسيان والتوبة .. ابناء الاغترار بالمقاسمة الشيطانية للثمرة المحرمة .. تغترون دائما بمن سبقكم في القضمة .. فتظنون أن بقضمته الأمان .. فتسيرون علي خطاه .. حتي تتبعونه هبوطه محسورا ..

هو النداء الثالث لبني آدم بذات الصيغة في السورة .. فالسورة تقوم علي اظهار الفريقين فريق النور وفريق الظلامية .. وتضعك بحيادية علي رسم صورة كاملة لمعتقداتهم وعيشهم ومآلهم .. تصنع لك الإختيار المضيئ .. اختيارا عن معرفة كاملة ..
تضعك أمام النجدين .. نجد الشكر  .. ونجد الكفر .. (وهديناه النجدين .. إما شاكرا وإما كفورا)
ولهذا فقد اغرقت في التاصيل .. فعمدت إلي قدم الخليقة .. واصل الصراع .. إلي وقت ولادة الظلام الإبليسي المستكبر علي الأمر.. وصراعه مع قوي النور الساجدة ائتماراً وطاعة .. والواقف بينهما آدم كأعراف حديثة التشكل ..
  بعد النداء الأول .. يابني آدم لا يفتننكم الشيطان ..  نداء تحذيري من طريق الظلام وقائده .. يأتي نداء تحفيزي لاتباع قادة طريق النور ... يابني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ..
وكعادة الأعراف .. تضعك في الاختيار .. ترسم لك الطريقين دون أن تامرك بصراحة اتباع ايهما ..
فنجد تصميم الآية لا يحوي أمرا بالاتباع ..
إما يأتينكم رسل .. أي حين ياتيكم قادة النور المصلحين .. من الأنبياء والمرسلين .. تكونون قسمين  .. ولكم الاختيار ..
قسم من اتقي واصلح ..  ومآله لا خوف ولا حزن ..
وقسم من كذب واستكبر .. ومآله النار بالخلود ..

اتقي واصلح .. التصور الإسلامي يمتاز عن باقي التصورات البيضاء الساذجة .. اللامكتملة .. انه لا يدعو إلي تزكية النفس وحسب .. لايدعو إلي تقوي فردية وصلاح أناني .. إنما يستوجب انطلاق من هذا الصلاح نحو الإصلاح .. من التقوي نحو التغيير المجتمعي .. من التشريع الفردي نحو التشريع الأممي .. من السيرة الفردية نحو السيرة الأممية ..

ولا خوف ولا حزن .. فتلك هي مرتكزات الاتقاء البشري .. البشر يبحثون عن رفع الخوف ورفع الحزن .. متطلباتهم الرئيسية الأمان والسعادة  .. نفي الخوف ونفي الحزن  ..
والله يكفلها لأولئك المتقين المصلحين .. ولاشيء في الكون يمنحك تلكما معا .. سوي الارتماء في التصور الإسلامي النوراني والإصلاح من خلال المعسكر الإسلامي الأبيض ..
إلي أولئك الباحثين عن الآمان .. المتلمسين للسعادة ..  لا سبيل لكم سوي التقوي الفردية .. والإصلاح الجمعي ..

كذبوا بآياتنا .. واستكبروا عنها ..  هما طريقين للزيغ والضلال .. طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين ..  لاثالث لهما .. طريق المخدوعين والمخادعين ..  طريق الأعمي .. وطريق من اغلق عينيه أمام النور بكامل أرادته ..
طريق من كذب بالآية لسواد في قلبه .. او لشهوة أعمته .. او لظن عقلي فارغ .. أو سفسطة خاوية من المعني ..
وطريق من رآها .. واستيقنت بها نفسه .. لكنه استكبر عنها .. وتلبس أوشحة الأباليس .. وقال أنا خير ..

وكلاهما كفرعي نهر الظلام (التكذيب والاستكبار ) يجتمعان في المصب النهائي .. النار خالداً ...

يتبع .......

الاثنين، 25 أبريل 2011

البقرة 212 ((تاصيل تاريخي للتصور الإيماني 1))


"كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه .. وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم "
تلك الأية من الآيات التي طالما استتوقفتني واستوقفت غيري .. وهي من الآيات التي تحتاج مزيد تدبر وتدقيق نظر ... وتحتاج إلي نظرة شمولية ... إلي المقطوعة القرآنية بأكملها ..
فالله في صدد الحديث عن العلاقة بين المعسكر الاسلامي والمعسكر الظلامي .. وعن فقه الجهاد .. والتربية الربانية للصف الإسلامي المجاهد ..
لذا فهو يعقد هنا تأصيل فكري واضح وناصع وكامل .. تأصيل بمقدمة تاريخية تعود إلي البدايات القديمة قدم العالم .. تأصيل تاريخي لمن صنع بإرادته التاريخ .. واطلع بعلمه علي دقائق الأحداث فلا تأريخ كتأريخ المولي في القرآن ..
ولابد للتصور الواضح من قواعد ثابتة ليرتمي عليها ثقل العالم بتساؤلاته .. وتتفتت عليها محاولات الشياطين بشبهاتها .. ويحتكم إليها المؤمن في سجاله اليومي في مفاصلة واضحة مع تصورات الظلامية ..
وهنا احدي ابجديات التأصيل الرباني للتصور الإسلامي .. النظرة التاريخية لحقيقة الاختلاف وتطورها عبر الأزمان ..
البداية الأمة الواحدة .. الأسرة الواحدة ..  الناس كلهم أمة واحدة .. فبعث الله الرسل ..
المتدبر السطحي يظن الرسل سبب الخلاف الطارئ علي هذه الأمة الواحدة .. وتلك ايضاً شبهة الظلاميين ذوي الأفواه السكرية والأيادي النظيفة والأعين الرقراقة .. يقولون الدين سبب الخلاف .. والله سبب الدماء ..
تتبع الآية ستجد أن ارسال الرسل كان للحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه .. اي انهم كانوا مختلفين قبل الرسل .. وأن اختلافهم دون معيار للاحتكام هو سبب ارسال الرسل وليس العكس ..!!
وهنا ينبغي أن نعمق النظرة ..
إن مفهوم الأمة الواحدة .. ليس معناه أنها لا تحوي اختلافاً .. بل بالعكس إن الله هنا يجعل الاختلاف سنة كونية ثابتة .. وحقيقة خلقية مقصودة .. "ولايزالون مختلفين إلا ما رحم ربك ولذلك خلقهم" .. هو خلقهم مختلفين .. وخلقهم ليكونوا مختلفين .. والإسلام هنا يسبق تصورات العالم بأسره في تقبل الخلاف .. واتاحة الحرية الكاملة للاختلاف ..
ولكنه يضع لهذا الاختلاف معياراً .. وميزاناً .. وحكماً .. حتي لا يصاب الانسان بلوثات الحيرة .. واضطرابات التوهة بين الأراء والتصورات ..
إنه يرسم للخلاف حدوداً .. ويضع للاتفاق قواعد .. ويصنع للتصورات أرضية مشتركة ..
وتلك حقيقة النبوة والرسالات ..
لذا يتحدث مولانا عن أزمنة ما كان الناس أمة واحدة .. فالنبوة سنة ربانية وكونية قديمة قدم الاختلاف ..  مرتكزاتها ومنطلقاتها ورسالتها ثابتة ثبات  تلك الحقيقة بثبات مصدرها النوراني .. لا علاقة لها بالتغيرات التي تطرأ علي الأمم المتغيرة .. وخصائص الشعوب والأقوام .. فقد كانت النبوة قبل أن تكون القوميات والأعراق واللغات والشعوب .. كانت النبوة مذ كان الناس أمة واحدة
وكأنها ثابتة في اللاوعي الجمعي .. متوارثة في جينات الشعوب علي اختلاف الوانها فالمعين واحد .. هو الأسرة الآدمية الحواءية القديمة .. والأمة الواحدة التي تشربت القواعد الأولي للتصور .. والمرتكزات الأولي للنبوة .. وحملتها في أرواحهها واصلابها .. ونمت داخل الانسان في منطقة ما مظلمة من نفسه غريزة اساسية كغريزة الطعام والشراب .. وهي غريزة البحث عن الله .. غريزة تحسس الحق .. وتلمس التصور الرباني القويم ..
غريزة التنقيب عن المعيار القديم الذي انزله الله ولم يزل الناس أمة واحدة ...
هناك في منطقة ما مظلمة من النفوس .. منطقة بلا لغة .. ولا لون .. ولا صورة .. ولا حدود بيئية .. نتوحد فيها جميعاً ..
تردنا إلي تلك الوحدة القديمة حول المعيار الرباني الأوحد .. حول هذا "الكتاب" القديم ألذي انزل بالحق ليحكم بين الناس ..
ثم تطور التنزيل ذاك ليلائم التطور الشعوبي .. والقومي ..
ولكن اصل الكتاب لم يتبدل ,, ومرتكزات التصور الذي يحمله لم يتغير ..

فــ"بعث " الله النبيين ..
وهنا يجب أن نفيض قليلاً في لفظة النبيين في القرآن ..
جمع نبي في القرآن يأتي علي وجهين .. الوجه الأول .. النبيين .. والوجه الآخر الأنبياء ..
الأول جمع مذكر سالم يضم ياء ونون .. .. والأخر جمع تكسير "جمع غير اعتيادي" ..
وذاك من آيات الاعجاز التكنيكي في القرآن ..
فحين تأتي اللفظة علي صيغة جمع المذكر السالم .. فلابد وان تلحظ أن المقطوعة القرآنية تتحدث عن وحدة الرسالة .. والأرضية المشتركة للرسالات الربانية بمختلف ممثليها ..
وحين تأتي علي صيغة جمع التكسير .. تجد المقطوعة القرآنية تتحدث عن التنوع .. والتعددية .. كأن يتحدث المولي عن تنوع الحجج والبراهين والآيات التي حملها الأنبياء .. ورغم هذا كان التكذيب .. وسنتعرض لكل لفظة في مكانها بإذن الله ..
فحين تأتي النبيين فالمقصود ارضية النبوة وسماتها المشتركة ووحدة الرسالة .. وحين تأتي الأنبياء فالمقصود التنوع واختلاف طرق الدعوة وخصائص الرسالة تبعا لاختلاف الأقوام

ولا حاجة لنا هنا إذن في بيان أكثر عن مناسبة جمع النبيين علي هذا النحو في هذا الموضع الذي يتحدث وبصراحة عن وحدة الرسالة منذ عهد الأمة الواحدة ..

والكتاب مفرد .. والنبيين جمع .. فإن اختلف الممثلون للحقيقة النورانية .. وتنوع الحاملون لتكليف توصيل التصور الرباني للعالم .. فالتصور واحد .. ومعيار الحكم لم يتغير ..
الكتاب واحد .. والأنبياء شتي ..
الكتاب واحد .. والرسالات شتي .. والرسل كثر .. والأقوام تتعاقب ..
ويبقي الكتاب واحد ..
وصورته الثابتة الأخيرة الواحدة الباقية المحفوظة من العبث والتشويه والتلاعب .. هي تلك التي بين ايادينا بين دفتي المصحف ..
متناسقة مع ذاتها في هارمونيا عجائبية توحي في نفسها أنه محفوظ من الإضافة والحذف ..
فلم يجد علي القرآن شيء .. ولم يسقط منه شيء..

...............................................................

نزل الكتاب إذن ليضع هذا الاختلاف الأصيل بين البشر في صورته الصحية .. ويضع له اصوله وقواعده ومعيار احتكامه .. ومناطه "الحق" الذي فيه .. والحق الذي انزل به .. وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ..
وكأنه استمد الحق من مولاه .. استمداداً اصبح وكأنه يحمل معين الحق الخاص به .. تماماً كبحيرة تروي قرية بأكملها وهي انما ترتوي من النهر مباشرة ..

"وما اختلف فيه إلا الذين اوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم"
وهنا حدث نوع جديد من الاختلاف العابث .. الاختلاف المذموم .. اختلاف مرضي يقوم علي فساد القلوب .. اختلاف مناطه البغي لا اصل التنوع الخلقي ..
اختلاف في المعيار الأبيض ذاته ..
اختلاف في حقيقة الحقائق .. واصل الاصول ..
اختلاف ربما يراه من تشرب من ذاك الحق فراغاً عجائبياً .. ونزقاً اسطوريا لا محل له من التفسير ..
نوع جديد من الخلاف طرأ ..
وهذا الخلاف بالذات لا مجال لوجوده .. وذاك الخلاف بالتحديد هو الذي يقوم حوله الصراع الجهادي ..
فالله في حديثه عن الخلاف الأول العام .. وكأنه أقره ووضع له فقط معيار الاحتكام والحدود الكبري .. وكفله بحرية فريدة وجديدة علي التاريخ الانساني ..
ولكن الخلاف الآخر .. الخلاف علي الكتاب ذاته .. وعلي معيار الحكم نفسه ... وعلي أصل الأصولية بالوهية وربوبية وحاكمية الله علي الكون بأسره .. ذاك خلاف لا يسكت عنه .. فهو ينخر بجسد الكون ... ويدمر اساساته .. ويحاول اعادة الانسان إلي ظلامية التوهية .. ولوثات الحيرة المدمرة للإعمار الكوني المطلوب منه بدءاً ..
لذافهو الخلاف الذي قام حوله التأصيل الجهادي .. والمعسكر الحركي الإسلامي الأبيض ..

وياله من تاصيل رباني للمشروع الكوني الإسلامي .. ولأيدولوجية الدولة المسلمة .. ولتصور الحركة الربانية الجهادية باكملها ..

فبعد هذا الخلاف كان ظهور المعسكرين .. المعسكر المهدي "فهدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه"
لاحظ الإحالة المقارنة هنا ..
ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه .. الخلاف الأصيل المقرر الخلقي العادي ..
فهدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق  .. فالخلاف هنا خلاف في الأصول .. خلاف في الحق .. خلاف لا مبرر ولا يقرر ..
وفارق بين اختلاف بشري اصيل مناطه التنوع .. واختلاف في الأصول مناطه البغي وبطر الحق ..

وبالتالي أصبح علي هذه الفرقة المهدية إلي الصراط المستقيم الحفاظ علي هذا الحق .. والذود عنه .. وتبليغه إلي الحائرين .. وانقاذ الغافلين والمخدوعين بالظلامية والجاهلية ..
واصبح عليهم مواجهة "الباغين" في الحق .. وتحمل الأذي من معسكر الظلام الشيطاني المتكبر علي الحق ..
وذاك التحمل والصبر علي الاذي .. واحتمال الرباط علي ثغور التصور .. ومنافحة مناوشات الشبهات الظلامية .. واحياناً تحرشاته المباشرة بجسد المشروع الإسلامي ذاته ... ذاك الصبر هو الثمن الوحيد المقبول للجنة ..
"أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتي يقول الرسول والذين آمنوا معه متي نصر الله .. ألا إن نصر الله قريب "

يتبع مباشرة 

الاثنين، 4 أبريل 2011

القصص 3 (الآية 4-6)

" إن فرعون علا في الأرض وجعل اهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم "
ولأنها سورة القصص .. فلا تقرأها كغيرها .. فهي تحمل جانباً تصويرياً لا يجلب آثاره دون عيشه متصوراً حاضراً .. بشخوصه وحركاته .. بالصوت واللون .. بسرعة الحركة حيناً وتباطؤها حيناً .. وايقاف المشهد حيناً ليدلف صوت الراوي المعلق علي الحدث حيناً ..


وكمشهد حركي سريع صامت تبدأ الحكاية ..
فتخيل تلك الشاشة السوداء في البداية وصوت في الخلفية ينبئك أنك ستسمع حكاية موسي وفرعون ..
ومع اسم فرعون تبيض الشاشة لـتأتي بمشهد صامت سريع علي الوضع .. فرعون عال في الأرض ..


وكعادة الفراعين .. علو منبثق من تحطيم القاعدة المحكومة .. تجزئتها .. تفتيتها .. تشييعها ..
الفرقة ذنب الجماهير .. وخطيئة الأتباع الدائمة ..
التشيع .. والتحزب فتنة الفتن .. معول الهدم الاعظم .. وسلاح النخر في عظام الأمم ..
مجرد النظر إلي الأحوال يصيبك بغصة خانقة .. هؤلاء جميعهم يتفقون علي مبادئ اساسية .. جميعهم مستضعفون ..
جميعهم مهزومون .. جميعهم طيبون يمثلون البياض ..
ورغم هذا .. وبكل سخرية الكون .. ينشغلون بمناوشات بعضهم ..
ينشغلون بمكانهم في الصف عن المعركة الدائرة ..
ينشغلون بلون الفرس .. وعدد أزرار الزي .. وجواهر الغمد .. وعدد احزمة الدرع .. 

ينشغلون بقضايا الأمس .. ومعارك الأمس .. وفتن الأمس ..
تمضي الأعمار .. وذاك لم يزل منشغلاً بلعن معاوية ... وذاك لم يزل منشغلاً بالدفاع عنه ..
وقد مضي معاوية .. والفريقان يلبسان الأبيض .. 
والأسود هناك علي الثغر .. باسم الثغر ..


وصوت النبي .. النبي .. ذاك القرار الأبيض في أذهان الجميع .. لم يزل في الأفق يدوي : لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ..
ونتن الدعوي للفرقة لم يزل ريحها محفوظاً للنفرة علي لسان المحذر الابيض : دعوها فإنها منتنة ..

وشحوب غصته وحسرته وألمه لم يجد واعياً في نداءه : إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلي يوم القيامة ..


ودعواه المردودة .. وهو النبي .. فقط لتنبهنا .. هنا لم تستجب دعوة النبي فاحذروا ..
هنا وكلتم إلي أعمالكم فاحذروا ..
سألت الله ألا يجعل بأسهم بينهم شديد .. فمنعنيها ..


ويحكم .. هي مهمة الفراعين الكبري .. فراعين الأمس واليوم .. 
علا في الأرض .. استغل علوه .. استغل اعلامه .. وقوي انتاجه .. سيطرته ..
ليفرق .. فيزداد علوا..
فالبتشويش .. والتفريق .. والتشييع .. فقط لن توجد منهم قوة تهز عروشه ..
فلا يقلق الفراعين سوي جموع موحدة الكلمة ..
ولا ينغص عيش السواد .. سوي ملاحظة جموع البياض لبياضهم المشترك ..
ولا ينغص نوم الشيطان .. سوي أن يجد المؤمنين ولو قاعدة واحدة ليتفقوا عليها ..



يستضعف طائفة منهم ... 
فإذا تفرق القطيع اصبح الصيد اسهل .. 
وإذا انقطع المدد .. وشحبت النصرة .. صارت الفرائس اشهي ..
تماما كحالنا ..
تداعي الأكلة علي قصعتها .. 
قصعة الاسلام الشهية ..
أو من قلة ..
لا والله بل كثير .. ولكنكم غثاء .. كغثاء السيل ..
أنتم جموع كثر .. أنتم الجمع الأكبر .. 
ولكنكم كزخات المطر .. كل قطرة تمضي وحيدة ..
وما اقصي ما يفعله المطر بالصخر سوي ان يبلله ..
رغم أن موج البحر من قبله فتت الصخور ..


يذبح ابناءهم .. 
هي اشارة لذاك الخطر المحدق بموسي الجنين ..
ففي صورة ذهنية فيها ذبح الرضع .. 
حين يولد موسي لن نحتاج أن نفكر في سبب خوف أمه .. 


ويستحيي نساءهم ..
هي صورة قرآنية جميلة .. عظيمة الأدب ..
فدخول الألف والسين والتاء علي الفعل يأتي بمعني الطلب ..
فيتستسقي .. اي يطلب السقاية ..
ويستحيي .. أي يطلب حياءهم ..
وهنا تأتي أفعال الفرعون بلا مدي محدود .. هو يطلب من النساء كل ما ارتبط بحياءهم ..
وهنا يوقن الذهن بمدي نتن ذاك الكرسي العالي ..


هو لم يفسر .. لم يقل كما يروون يغتصب .. او يتحرش .. او .. او  .. 
فقط يتسحيي .. مضاعفة الياء .. حملت وحدها كل ما يمكن للذهن ان يتخيل .. دون ان يغادر القرآن أدبه البليغ بحرف ..


" إنه كان من المفسدين "
كعادة القرآن .. وكعادة التصور الإسلامي .. لا يصفه وحده .. بكون فاسداً ..
لم يقل يوماً غنه كان فاسقاً .. أو ظالماً .. أو مفسداً ..
دائماً يضعه في حزبه .. الأسود ..
دائماً يري السواد والشر حزباً .. والبياض والخير حزباً ..
فنجد ذاك ملمحاً واضحاً من ملامح الوصف القرآني ..
من الصابرين .. من الصالحين .. من المتقين .. من الظالمين .. من الفاسقين ..


فالأمر لا يعدو معسكرين .. حزبين متنازعين ..
لا يوجد توجهات فردية .. 
ولكل وجهة هو موليها ... 
كل الناس يغدو ... 
وهناك غاديين اثنين كما جاء في الحديث ..
موبقها .. او معتقها ..


فليس المستقر سوي مستقرين اثنين بلا ثالث .. 
جنة .. ونار .. 
ففي أي المعسكرين انت ؟؟


وهنا تقف الصورة لوهلة ..
ليدخل صوت خلفي دافئ ..
صوت يوحي بأنه ليس فقط ما يحدث في الظاهر هو ما يحدث حقاً ..
وأن هناك عالماً ثرياً .. خفي .. هو عالم الغيب .. هو مطبخ القدر ..
هو ذاك القضاء الذي يحضر بصورة ما .. قد يخفت فهمها علي المتقصي ... 
ولكنه هناك ..
يد الله تعمل في الخفاء ..
وحكمة الله تقدر ما تشاء ..
نعم .. ذاك المشهد الحالي . وربما هو ما سيتكرر خلال عدة أعوام تالية ..
ولكن هناك في عوالم الإرادة الربانية النافذة .. واقدار الحق الحكيمة .. هناك مشيئة ما يتم تحققها ...
وقصة موسي الفرد .. ليست اقصوصة شخص .. إنما حكاية أمة باسرها ..
وتقديرات بسيطة في حياة ما علي عين الله .. تغير وجه التاريخ بأسره ..
"ونريد أن نمن علي الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة "
هو الله يريد .. ولا حدود لإرادته ..
هو لايريد مجرد حصولهم علي العدالة .. أو المساواة .. أو الانتقام من الظالم ..
هو يريد رج ذاك المشهد كزجاجة من الماء والرمل ..
يريد قلب الموازين .. المستضعفون يصيرون ائمة .. قادة .. علاة .. 
ولا حدود للقدرة .. كما لا حدود للإرادة .. 
وذاك من قوانين المولي ..
هي ربتة حانية علي كل مستضعف .. وكل اقلية .. وكل مهضومي الحق في الكون ..
اذا كانت الارادة في صفهم .. 
فالامر مسألة وقت .. والتدبير موكول إلي الأقدار .. والإمامة واستاذية الكون في الأفق لكل موقن غير سطحي النظرة ..
ولا مجال لليأس بحجة قراءة الواقع .. 
يالعبثية التنهيدات امام الوضع الاسلامي ..
كل ما يجب التركيز عليه ان تكون الارادة في صفنا .. ان نستحق تلك الارادة بالامامة ..
وحينها ..
ونجعلهم الوارثين ..
ونمكن لهم في الأرض ..


ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ...

السبت، 2 أبريل 2011

القصص 2

"تلك آيات الكتاب المبين"
دائماً تلك المتتابعة القرآنية بعد الحروف المقطعة الغامضة ...
حديث عن كتاب الله .. لمحة عن الكتاب نفسه ..


وتلك من مقومات الأسلوب القرآني .. والتي لها في ذات الوقت لمحة خفية للمتدبر فيها ..
القرآن يصف القرآن في القرآن .. 
إن وصف القرآن بأنه كتاب مبين .. أو حكيم .. أو الحديث عن اعجاز القرآن نفسه إنما جاء بالقرآن نفسه ..؟؟!! 
وتلك طبيعة قدسية  .. الله وحده يمكنه أن يصف نفسه بما يستحق .. ويحمد نفسه بما يستحق ... ويثني علي ذاته بما هو أهله ..
ولما كان القرآن كلامه .. منه .. فلم يكن يسع الألسنة أن تحيطه وصفاً وثناءاً ..
لذا فوصفه منه .. وثناءه به فيه .. والتندر بإعجازه إنما جاء بين طياته هو .. إعجاز فوق إعجاز ..
وقوة استعلائية كبري .. تدهم النفوس .. لتسقط حصون الانكار .. 
وتدلف الكاريزما القرآنية .. والحضور الطاغي لكتاب لينافح عن نفسه بنفسه .. ليخاطب من النفس اوتاراً خفية .. ومستقبلات غيبية ..
مستقبلات تعلم .. أن ما يفعل ذاك إلا إله ,,
وما ينبثق مثل هذا الحديث إلا عن إله ..


وهي كذلك مقدمة .. واستهلال .. رائع ساطع .. استهلال يؤهل النفوس المستمعة أن انتبهي . فالقادم ليس قصصا عابثاً ..
ولا تندر حكائي عابر .. ولا مجرد اقصوصة الغاية منها المصمصمة .. أو العبرة القريبة ..
إنما هو منهج ضخم .. وقواعد تصور .. وقوانين كبري للاعتقاد .. واحدي مقومات البناء الدوواخل الانسانية ..
البناء بالقصة ..


واللمحة الخفية التي تلمع في: حديث القرآن عن نفسه ..
فالقرآن هو رسالة النبي .. وفي ذات الوقت هو معجزته ..
فهو المعجزة التي تحير العقول وتصيبها بالشلل لأنها تفوق معايير الإعتيادية .. فيؤمنون بالرسالة .. التي هي ذات المعجزة !!!
كما أن القرآن هو الهادي .. هو الهدي .. هو السبيل .. وفي ذات الوقت هو ذات الهداية .. وهو ذات الغاية ..
فهو الهداية والطريق إلي الحق .. وهو في ذات الوقت هو ذات الحق .. يهدي بنفسه إلي نفسه ...
نسق متكامل .. متناسق مع نفسه .. منسق لكل من دلف إليه  ..
فكيف يتسغرب أن يتحدث بنفسه عن نفسه ..
وأن تكون تلك سمة متتابعة الحروف المتقطعة ..



والمبين صفة ذات قطبين ..
فهي تخرج في الذهن صورتين ذهنيتين .. الأولي السطوع .. والوضوح .. فلا التفاف .. ولا غموض .. ولا حاجة للوساطة والترجمات والشروح والتفاسير مع القرآن .. فهو المبين ..
وصورة أخري كاسم فاعل .. بمعني الهداية والتبيين ..


وهي بهذا الصفة الأقرب لحالة حديث القرآن عن ذاته ..
وذاك من الإعجاز التكنيكي في القرآن ..

تري هل تلمح تلك الطبقات السردية .. layers 
فهي جملة واحدة .. بدأت بحروق مقطعة .. تلعب علي طبقتين .. طبقة اللفظ المجرد .. وطبقة النغم الداخلي المداعب لأشياء فينا لا نعيها ...
ثم حديث القرآن عن ذاته .. يلعب علي طبقتين .. طبقة بيان لفظي باقرار أن القرآن كتاب الله المبين ..
وطبقة داخلية يداعبها أن المتحدث هو القرآن نفسه .. وأن البيان جاء في ذات المبين .. تحيلنا إلي حقيقة هداية القرآن بنفسه إلي نفسه ..
وذاك يدلف بنا لي طبقة نفسية أعمق .. حين يشعرنا باكتفاء القرآن بنفسه ... واكتفاء منهجه حتي في وسائل هدايته نفسه بذات المنهج .. فالقرآن باعجازه يهدي إلي القرآن بمنهجه .. والكل قرآن ..
وذاك يجحملنا إلي طبقة أخري .. وهي طبقة الاكتمال .. فالقرآن اكمال للديانة السماوي بصورها القديمة .. والنسخة الأخيرة من مراحل تطور الديانة .. لا تطورها لأنها كانت تحتاج إلي تطور .. وإنما لحاجة البشر أنفسهم أن يتطوروا .. لذا فهي فقط كانت تنتظر تطورهم هم .. والقرآن هو البيان السماوي الأخير .. والصورة النهائية للتصور ..

وذاك التدبر نفسه يجعلنا نضع كلمة المبين في اطارها المعنوي بقطبيه ..
قطب الوضوح ..  وقطب الإبانة ..
قطب المنهج .. وقطب الهداية ...

طبقة .. نفهم فيها أن القرآن واضح ساطع جلي .. وطبقة نفهم فيها أن القرآن هو الهادي والدليل والنور الذي يستدل به في ظلمات التيه ..


إ، التدبر القرآني ليس إلي غوص في الحالة التي تغمرنا بها الآيات ..
تحليق معها حين ترفعنا بصورة ذهنية ما تدلف مع الكلمة والنغم والاتفاتة إلي طبقة .. وغوص معها حين تحملنا الجملة الكلية وتكنيك السرد .. والمتشابه والمختلف والإحالة والحمل المعنوي للفظ المستخدم إلي طبقات أخري ..
التدبر ليس سوي محاولة الإمساك بالصورة كاملة .. 
صورة السورة ...من العنوان .. للآيات .. للترتيب .. للعدد ..

ياله من اسم .. سورة .. كسور .. كبرواز يمسك الآيات والتراتبية والصور داخلها .. كعقد يلم حبات .. 
والتدبر هو الإمساك بحقيقة السورة .. صورتها الكاملة ..
أن تغلق السورة .. لست فقط متمعناً في آيات علي حدا .. أو معاني مختلفة .. لها أثر جد عظيم .. لا ننكره ..
وإنما أن تغلق السورة وقد تشربتها .. درت فيها كقصر واسع ارتسم في ذهنك خرائطه .. واحطت بسراديبه .. غصت في دهاليزه .. وركبت مصاعده .. 
وخرجت وقد خبرته ..


...............................
نتلو عليك من نبأ موسي وفرعون بالحق لقوم يؤمنون 
دخول فوري إلي القصة .. وذاك قلما يكون في القصة الطويلة في القرآن إلي في سورتين .. القصص ويوسف 
وتلك إحالة قرآنية ..
فذاك الأرتباط الذي ارتفع في الذهن بمجرد البداية السردية السريعة دون مقدمات بين يوسف والقصص .. هو ارتباط مقصود
ارتباط يحيلنا إلي مقارنة مطلوبة بين يوسف وموسي ..
مقارنات سيتجلي اثرها خلال الخوض في السورة هنا آية بعد آية .. ليرسم في النهاية صورتين كبيرتين ويضعهما معاً في مجموعة عصبية واحدة في المخ البشري ..  صورة البناء اليوسفي والبناء الموسوي 

وهنا نوع سردي من أنواع السرد القرآني .. تعريف بالشخصيات .. وخلفية تاريخية للقصة ..

موسي وفرعون .. ثم مصر قبل موسي 
وذاك غير تكنيك السرد المتبع في قصة يوسف حيث بدأ السرد بأن تفتح الستارة علي حلم .. غامض بشمس وقمر ونجوم يسجدون لطفل صغير .. يروي حلمه لأبيه .. رباه .. ما أجمل طعم القصة .. ببداية مشوقة كتلك .. لذا لا عجب أن نجد المستجدين علي الإسلام .. والأطفال يعشقون سورة يوسف دون أن يدون لماذا ..
لقد استخدم ربنا في القرآن تكنيكات سردية .. التدبر فيها وحد من وجهة نظر أدبية .. يصيبنا بالثمالة .. بالدوار .. بالتلذذ ..


وفي القصص .. وكأنه يقول كان ياماكان .. كان فيه واحد اسمه موسي .. وواحد اسمه فرعون ..
لم يقل أيهم من .. ومن البطل .. تماماً كتشويق حكايا الصغار ..


ثم خلفية تاريخية ... لو دلف إليه مباشرة لضاع التشويق ..
فلو قال مثلاً إن فرعون علا  واستعبد واستضعف .. لما انتظر السامع ظهور موسي ..
لكنه بتلك الآية .. آية نتلو عليك ..
خاض بعدها في طغيان فرعون والكل ينتظر .. من موسي .. ومتي يظهر .. 

وحين يظهر .. نعلم أن لهذا الطفل شأن ما في الحكاية .. ننتظر متي يكبر ..
ولولا أن قال نتلو من نبأ موسي وفرعون .. وأعلمنا من البداية أن موسي وفرعون هما الخصمين .. وأن بينهما معركة ما .. وأنهما طرفي القصة ..
لما شهقنا مع التابوت الخشبي الذي يفتح في بيت فرعون ليجد فيه موسي .. ولما تعلقت العيون بسكين فرعون علي رقبة موسي في قصره .. وتدخل العناية الربانية بالانقاذ .. كذبيح جديد .. وكعهد الأنبياء مع الفداء منذ اسماعيل ..
ولما ارتفعت علامات التعجب من ذاك الانسجام الأولي لموسي في بيت فرعون .. الانسجام الذي استوجب علي خلاف سورة يوسف تدخل اللفظ ا"استوي" علي الآية المتشابههة بينهما ..
ولما بلغ اشده اتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ... سورة يوسف

ولما بلغ اشده واستوي اتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين .. سورة القصص 


موسي يتربي في بيت العدو .. في بيت فرعون .. ومهما كان المصير المنتظر إن للتربية والبيئة المحيطة عواملها.. 
فكان لابد من الاستواء .. استواء يوحي بالتنظيف من أي ما قد يكون قد علق به من تلك البيئة .. ومن هذه التربية ..
أما يوسف فيتربي في بيت يعقوب .. نبي ابن نبي ابن نبي .. فأي شيء يمكن ان يعلق به ؟؟؟!!ـ

إن هناك طبقة تدبر خفية في سورة القصص .. وهي اسلوب الحكي ذاته .. التسارع الزمني حينا له مغزي خفي .. والتباطؤ في وصف بعض الأحداث حينا له معني مغمور .. لايجب أن نغفل تلك الطبقة في الحديث عن سورة القصص 

وإلا فكيف بنا هنا نفهم اسم السورة نفسها .. القصص 

إذا سمي الله السورة بالقصص .. فلتنخرس ألسنة التنظير الأدبي .. ولتصمت أقلام النظريات الروائية .. وليجلس الجميع كتلاميذ أمام السرد القصصي الرباني .. ولتنفتح اقسام الجامعات لتدريس الحكي القرآني .. والالتفات .. والعقدة .. والشخصيات .. والنمو .. والتشويق .. والغاية .. والرسالة .. فحينما يحكي الله .. إنما يحكي من يحكي بعده بما لديه من صفاقة 
افبعد حكايا المولي الحق .. هل من حكايا 

يتبع .....................

الأربعاء، 5 يناير 2011

سورة القصص .. مقدمة


بسم الله الرحمن الرحيم ..
بسم الله .. التي لا يجوز إلا أن يبدأ بها كل عمل ذي بال .. فكيف والبال يعصر تركيزه .. والبال يجمع فتاته ويلملم شتاته ليدلف إلي كتاب الله ..
كيف والبال يسعي للخلاص من الهم والقلق .. فلا يجد إلا في القرآن مهرباً وملاذاً ..
كيف والبال يتخير عند كل موقف وعند كل حالة من بستان القرآن زهرة يبدد عبيرها نتن المادية .. ويحيل اكسيرها عفن التصورات جناناً ..

لماذا القصص .. ولماذا الآن ..
نصيحة لكل حائر .. لكل من طوقته الهموم .. لكل من ضاعت بوصلته .. وتاه منه المقصد .. وهرب منه المآل .. لكل من تخلف وراء الركب .. وغاصت راحلته ونفد منه الزاد ..واصبح يتلفت حوله يتلمس ظلاً .. يتلمس كسرة خبز.. يتلمس نوراً يهتدي به في ظلمات التوهة ..
نصيحة لمن أراد أن يفقه الخطة الربانية العامة للحياة .. لمن أراد أن يقرأ في السيرة الذاتية للعظماء يتلمس عبرة وهدي ..
نصيحة أن يدلف إلي السير التي رسمها الله بيده .. سيرة كاملة من المولد للنجاح ..
هناك سيرتين في كتاب الله .. سيرة يوسف الصديق في سورة باسمه وللاسم مغزي .. وسيرة موسي الكليم في سورة القصص ووللاسم دلالة ..
هي لم تسم سورة موسي .. لأنه لم يكن من البدء نبياً .. ولم يكن لموسي اشارة نبوة واضحه تخبره بأن هناك ما ينتظره .. كما كان ليوسف .
بل لم يكن موسي قبل النبوة واضح العقيدة كيوسف الصديق ابن يعقوب النبي حفيد ابراهيم الخليل ..
وإذا أردت أن تتحقق من ذاك فلتقرأ الآية التي تحيل السورتين وتربطهما معاً .. والتي تصف النبيين ونشاتهم ولا تختلف إلا في كلمة ..
تلك الكلمة وحدها تبين لك لماذا اختلفت التسمية في الحالتين ..
في سورة يوسف "فلما بلغ أشده أتيناه حكما وعلماً "
أما في سورة القصص "فلما بلغ أشده واستوي أتيناه حكماً وعلماً "
نعم موسي كان يحتاج إلي الاستواء .. موسي كان يحتاج إلي تدخل الأقدار لإزالة أي شوائب خلفتها التربية أو المجتمع أو غياب الوضوح الكامل للتصور ..
موسي الوليد تربي في بيت فرعون المتأله .. ويوسف الوليد تربي في بيت يعقوب النبي ..
لم يكن ينتظر يوسف لـتأتيه أنوار النبوة سوي البلوغ .. لم يكن ينقصه سوي الزمن .,. فقط مزيداً من الوقت ..
أما موسي .. فقد كان ينتظره الكثير .. ينتظره تمحيص .. وتمحيص .. ليس مجرد الزمن ..
لذا يلقي يوسف في السجن فيوسف سيحتمل .. أما موسي فيتم تهريبه بالعناية القدسية ليلقي في رحاب الرجل الصالح الذي يقال هو شعيب نفسه ليتم تربوياته .. يلقي عشر سنوات في الصحراء ليستوي ..

لذا فقصة موسي أكثر عمومية .. أكثر بشرية .. أكثر قرباً من الاعتيادية البشرية .. لذا سميت علي عمومها القصص ..
وما يميز قصة موسي عن قصة يوسف أن قصة موسي قصة أمة بأكملها ... وقصة الصراع الكامل بين قوي الحق  والباطل .. قصة متعددة الأبعاد ..متراكبة العظة .. متداخلة العبر والأهداف .. لذا كان يلائمها أكثر عنوان القصص .. أكثر من أن تسمي سورة موسي ..
أما قصة يوسف فهي تغوص في العمق الداخلي تغوص في أبعاد ذاتية .. تضرب علي أوتار حميمة .. كالحسد .. والشهوة ..

سبحان من أبدع التصوير القصصي  ولم يحرم عباده من لذة القصة والرواية .. فأعطي لنا مثالا علي القصة العامة متعددة الأبعاد .. والقصة النفسية الشخصية العميقة المتمركزة حول الإنسان ..

لماذا القصص الآن ..
فقط لأني احتاج إليها الآن بالذات ..
فهي تحمل إجابات عدة .. حول تحقيق الذات .. حول التحديات .. حول الفرصة الثانية .. حول الخطيئة .. والخروج من ظلمة الخطأ إلي لامتناهية الصفاء .. حول الذات والتعامل مع اشكالية اللإفتتان بالنفس .. حول المرأة والزواج .. حول الصبر واليقين .. حول القدر والعناية .. حول الحكمة الخفية .. حول المعاناة ..
هي إجابات احتاج إليها الآن .. ويحتاج إليها كل من يقبل علي الحياة العملية أو الزواج .. بل كل من يطمح إلي تغيير حياته ..
إلي كل من يسعي إلي فرصة ثانية ..
إلي كل من لا يستطيع رؤية معني لحياته .. إلي كل من يشعر بالخواء .. والفراغ النفسي .. ويحتاج إلي أن يمسك بين يديه معني .. غاية ما ..  يحتاج أن يصل إلي حقيقة كينونته ..

إلي كل من أخذته الدنيا .. حتي استيقظ يوماً فلم يعرف من هو .. ولم يدرك ماهيته .. لم يلمس حقيقته .. إلي كل من شعر للحظات _وأحيانا لسنوات _ أنه قد تاه عن نفسه .. وفقد روحه ..  


طسم ..
الطواسين ثلاثة .. القصص ثالثتهما ..
طسم الشعراء .. وطس النمل .. وطسم القصص...

الطواسين .. ما يميزها أن لها علاقة وطيدة بالقصة القرآنية .. وتتميز بأسلوب السرد والحكاية ..
الطواسين ما يميزها .. أنها لا تمهد للقصة بل تدلف إلي القصة من أول السورة ..
طسم الشعراء .. تمر بأسلوب السرد السريع .. كنوع من الحكي الوثائقي الذي يتصفح التاريخ البشري .. وتاريخ الصراع النبوي الظلامي بصفحاته .. في أسلوب سريع يعتمد علي التماثلية .. ليحيك في الذهن قصة النبوات مترابطة .. فالرسالة واحدة والمصدر واحد .. بل والشر أيضا واحد والشيطان واحد وإن تعددت الصور والحجج الواهية لمقاومة النور ..
في مقاطع كثيرة .. تذكرك بأبيات الشعر وأشطاره .. لذا فلا عجب حين تسمي الشعراء .. وآخرها يقنن حدود الفن الإبداعي باسره .. بعدما خلب الأذهان بموسيقي رائعة .. اصبح قول الشعر جوارها ضرباً من النزق ...

ثم طس النمل .. ترحل بنا في مملكة عجائبية .. مملكة خارج القوانين الطبيعية .. مملكة لا منطقية .. غرائبية ... مملكة سليمان النبي . لذا فلا عجب أن يكون قول نملة هو اسم السورة بأكملها .. اشارة إلي ذلك العالم العجيب الذي تحويه تلك السورة ..
وسبحان الملك القدوس وتامل تلك الوحدة النفسية بين السور القرآنية .. فسورة النمل تلك بعجائبيتها .. تنتهي بذكر الدابة التي تكلم الناس في آخر الزمان .. والجبال التي تسير كالسحب .. وكأنك تري ذاك العالم العجيب .. اللامنطقي تحملك إليه السورة منذ عنوانها ومطلعها إلي قصصها (الهدهد الداعية .. مملكة وإمرأة .. عرش يسير عبر الزمن .. قصر بأرضية من عجائبية صنعها تسلم له ملكة ) ثم الدابة وحقيقة سير الجبال ..

ثم طسم القصص .. وهي القصة الطويلة .. متعددة المراحل .. تري فيها نمو الشخصية في أجمل صوره .. تراها حينا بطيئة الإيقاع للغاية .. حين يصف لك مسيرة موسي في السوق ثم رحلته خارج مصر .. ويتسارع الإيقاع بقوة في مدين .. ليتباطأ ثانية حين مشهد الوحي والنار واللقاء بطوي .. ويتسارع في مشاهد الصراع .. ليصل لي ذروة التسارع في المشهد الأخير مع فرعون .. ليخبرك أنه ليست النهاية هي المقصود والعبرة .. وإنما المسيرة .. الرحلة .. النمو .. الصيرورة ...
صفحات وصفحات وصفحات في مشاهد نمو موسي .. وبضع آيات للصراع الأخير ,.. وآيتين فقط للنهاية ..

حتي الإيقاع الزمني القرآني له غاية وهدف .. فهل من مدكر ..؟؟