الخميس، 15 سبتمبر 2011

سورة الأعراف (الحلقة الرابعة) قصة آدم وابليس 1

قبل الدخول إلي قصة آدم .. يعمد القرآن إلي رفع الواقع .. وإحالة الواقع عبر الأزمنة ورده إلي الاصل الأول .. إلي حقيقة الصراع القديم


"ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون"
هو رفع للواقع الحالي يتجاوز باتساع الحمل المعنوي لألفاظه حجب الزمان والمكان ..
حالة التمكين للبشر في الأرض .. سيطرة الإنسان .. أو شعوره الواهم بالسيطرة علي الأرض .. انخداعه بالتمكين .. وألفته للمعايش فتوهم بقاءه وخلوده ..
لم يرد البشر حالة التمكين التي تزداد يوما بعد يوم إلي رب الأرض والسموات ..


أحياناً نتساءل .. هل كان بإمكان العقل البشري وحده دون إلهام وتوفيق وتمكين رباني أن يصل إلي اكتشاف واحد أو أختراع واحد مما توصل إليه ..
إن المنطق العقلي أحياناً لا يتمكن من تصديق حالة التمكين العجائبية التي وصل إليها البشر علي الأرض ..
ولا يتمكن أحيانا من استيعاب أن بعض النظريات أو الإكتشافات هي نتاجات عقول البشر .. دون بناء علي علوم مسبقة ..


فقط التصور الإسلامي يرد العلوم والفنون وحالة التمكين الحضاري الشاسع الحالية والمعايش (وسائل تسهيل العيش) إلي التوفيق الرباني والقدر الإلهي في أمة الإنسان ..
الله هو المعطي الغائب دائماً في معادلات الإنسان .. في تصوراته وتفسيراته .. لذا تبقي كثير من أسئلته بلا أجوبة .. والعديد المتزايد من مشكلاته بلا حلول ..
الله هو السر الذي تنفك به شفرات الكون المستغلقة .. وتنفتح به السراديب المدفونة .. ويتسق به التصور البشري مع الكون ومع نفسه ..
الله هو ما يجمع خيوط الكون بأسرها معا .. ما يضفي علي الكون والحياة والخليقة معني وغاية وتفسير موزون ..


واي محاولة لفلسفة أو تصور يغيب فيه الله عنه .. ستكون عبث بلا طائل .. وأفكار تائهة شريدة مبعثرة لا جامع بينهما .. وإجابات تمنح المزيد والمزيد من التساؤل ..


ايما سؤال أعياك .. ابدأ دائماً في الإجابة من الله .. حتما ستتضح الصورة .. ويتسق التفسير ..


ولكن قليلا ما تشكرون ..
شكر .. رد النعمة إلي منعمها .. والملكية إلي مالكها .. وحالة التمكين إلي إرادة الله التمكين للبشر ..


ثم عودة إلي الزمن القديم .. أو ربما إلي ما قبل أزمنة البشر .. عودة لتأصيل التصور البشري ..

هو إحالة ورد مرحلة التمكين إلي مرحلة التكوين ..
"ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا ابليس لم يكن من الساجدين "
الخلق ايجاد من عدم .. والتصوير احالة من حالة لحالة ..
إرادة الله في الإيجاد .. وإرادة الله في الصورة الآدمية الحالية ..


وابليس ذاك لم يكن من الملائكة .. بل كان من الجن .. مخلوق من نار .. ولكنه رفع  في الدرجات حتي صار بمنزلتهم .. فنسب إليهم وجمع معهم في الذكر..
فعند الله ليست الأوصاف والنعوت بالقومية والانتساب ..  فالملائكية نعتا لمن حمل صفتهم ..
ولو تخيلت هذا لعلمت وطأة اللفظ اهبط منها ..
نعم هو هبوط من منزلة الملائكية .. ومن حضرة القرب .. ومن مكانة الولاية ..  ليس فقط هبوط من السماء إلي الأرض .. أو من الجنة إلي الدنيا .. فذاك خروج .
وذاك هو المعني في مرافقة اللفظ اهبط للفظ اخرج ..


الملائكة تسجد لآدم .. ياله من تكريم ... إن كلنا يسعي لحالة الملائكية .. للكمال الملائكي ..
ولكن الله يحفر في أذهاننا صورة .. صورة الملائكة ساجدة لآدم ..
فالملائكة مجبولة علي الطاعة .. مجبرة عليها .. ليس لها اختيار ..
أما الإنسان فقد حمل داخله نفخة من روح الله .. نفخة اكسبته بضعة من إرادة .. من حرية .. من الطاعة انطلاقا من المحبوبية لا القهر .. الطاعة انطلاقا من الطواعية .. من الائتمار الطوعي .. لا من التسيير الجبري ..
وذاك عند الله أحب .. واكرم ..

إن الله يحب من يطيعه وهو قادر أن يعصيه .. بل يرفع من كانت المعصية منه اقرب ورفضها طواعية لله ..
وتلك حكمة بالغة وأمل منقذ لأهل الابتلاء بالذنوب ..
فإن بعض ممن ابتلاهم الله بذنب او أكثر .. يتمني لو رفع عنه الذنب .. أو حفظه الله من نداءات الشهوة .. واخرس منطلقات الرغبة فيه .. ويتمني البعض العصمة ..
لا يعلمون أن ترك الذنب طواعية لله وهو ميسر .. متحققة أسبابه .. ممهدة سبله .. متعالية نداءاته .. احب عنده من ألف طاعة ملائكية قسرية ..
وترك الذنب بعد الاعتياد عليه لله .. ربما يحملك إلي مقامات لم يصل إليها من اعتاد الطاعة ..
إن الذنوب أحيانا تكون سبل الوصول .. تحمل لك مفاتيح الدخول لحضرة الولاية ..
فما التقوي إذن إن لم يكن للذنب نداء .. ولسبيله غواية ..
وما طعم الجنة إن لم يكن قبلها جهد وعناء ...
إن المذاقات نسبية ياسادة .. فذات الطعام يكون اشهي بعد الصيام .. ونفس الشراب يصير أحلي بعد العطش ..
والجنة من جماليتها ماكان في الدنيا من الجهد وحمل النفس علي المكروه .. فلا تسلبوا الجنان بعض جماليتها ..

"لم يكن من الساجدين "
هكذا هو التوجه الابليسي .. والنفسية الإبليسية .. والشعور الابليسي العام نحوك يا ابن آدم منذا الأزل ..
لن نقولها كما كانوا يرددونها لنا في المدارس الابتدائية .. ابليس يريدنا أن ندخل معه النار ..

الأمر أكبر من هذا .. هو لايريد لك رفعة من اي لون .. يكره ارتقاءك .. يحزنه تقدمك ..
أتدري ماهو أكثر ما يغيظه .. ويسعي طاووس الملائكة القديم لمنعه بكل جهده ..
أن تكون أقرب من الله ..

فما حقيقة لعنته وطرده .. سوي ولاية الله القديمة لآدم ..
إن ابليس لا يسعي لافساد الأرض .. فهو لايعبأ بالأرض ..
إنما يسعي لافساد علاقتها بالسماء .. يسعي لقطع الاتصال بالنور ..
يسعي لكلمة وحيدة سمعها وحده مرة .. ويريد أن يسمعها آدم كل لحظة .. كلمة اهبط .. اهبط .. اهبط ..

لو كان ابليس جنيا مخلوقا للغواية منذ البدء لكان أهون علينا ..
ولكنه كيان ذاق القرب .. ذاق طعم السماء .. لمس هول الحضرة ..
ثم هبط ...
هبط فكان هبوطه مضاعفاً ..
تماما كالغائص في أعماق البحر .. ولكن من فوق جبل ..
لن يكون ابدا كطاقة الغائص من سطح الأرض ..

وابليس كان عاليا .. كان قريبا .. كان سماويا ..
وهبط ..
هبط بحقد أكبر .. وحسد أعظم .. وطاقة أشد ..
هو يراك انت سبب هبوطه .. سبب سلبه نعيمه القديم إلي الأبد ..

يراك سبب شقائه الأزلي ..
يملئه الثأر ... ليكون هو ايضا سبب شقاءك ..

"قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين "
تلك الآية تحمل لمسة جميلة كثيرا ما نغفل عنها ..
لو سئلت أحدهم لماذا طرد الله ابليس .. لأجابك لأنه رفض السجود لآدم ..
ووالله لم يفعل ؟؟
إن الله لم يطرد ابليس بعد أن رفض السجود لآدم .. حاشاه الحليم أن يؤاخذ بالعصيان هكذا ..
وتأمل كل المقاطع القرآنية التي تحدثت عن تلك الحادثة المحورية ..
دائما تجد ذاك الحوار بعد السقوط .. السؤال عن السبب وهو أعلم به ..
ولكنها لمراجعته .. عله يتوب .. عله يعود .. عله يستغفر ... لعله يسارع في تدارك الأمر واللحوق بركب الساجدين ..

بل إن تركيب هذه الأية أكثر ما يدل علي ذلك ..
فلو رأينا أن حرف لا في ألا تسجد بمعني النفي لفسد المعني لأنه سيصير .. ما منعك أن لا تسجد .. ولا شيء منع ابليس أن لايسجد .. إنما سيكون صواب الكلام .. ما منعك أن تسجد ؟؟!!
ولكن دعونا نغير أماكن الوقف .. ونقرأها هكذا كما قرأها بعض المفسرين
ما منعك ؟؟   .... (وقف) .. ألا تسجد إذ أمرتك ..
وكأن ألا هنا استفهام "وهو أعلم" ..  للحث ..
كأن تقول ألا تفعل كذا من أجلي من فضلك ؟؟

وما منعك .. يمنحه فرصة للتبرير .. للاعتذار .. للعتبي .. ولكنه لم يفعل ..

إن ابليس طرده الاستكبار .. طرده التأله علي الله .. طرده محاكمة حكمة الله بمحدودية عقله .. طرده محاولته العابثة رد الحكم الرباني ..
لم يطرده العصيان .. إنما طرده منطلق العصيان ..

وتلك الآية قد حملت بضعة سمات للأبليسية الأولي هي السبب في سقطته وشقوته .. حملت منطلقات العصيان .. التي هي اسباب الطرد والهبوط .. حينها .. وللأبد .. لابليس ولغيره ..

- إن خطيئة ابليس العظمي ..أنه قد ظن أنه لايوجد متسع للجميع .. وظن أن حضرة القرب من الله لا تكفي لكل الواردين ..
راي في تكريم آدم له إهانة .. وفي رفعة آدم حطة منه ..
وفي مشاركة المخلوق الجديد .. مزاحمة وضيق ..
ذاك منعطف الطاووسية .. وعثرة الأنا النرجسية ..
وتلك صفة قد سربها ابليس لبعض الآدميين .. فظنوا ألا متسع للجميع ,, وأنه لايوجد ما يكفي للكل ..
وظنوا أن الأصل في الحياة الطوابير .. ومن يقف أولا ؟؟ .. وأن غاية العيش التراتبية .. ومن هو الأفضل ؟؟

ومن سماته ايضا تزكية النفس بمعني الظن بخيريتها .. أنا خير منه .. وكأنه في مقابلة عمل لمدير لا يعلم شيئاً عن المتقدمين ..
تماما كبعضنا .. يرفع سيرته الذاتية إلي الله معترضا علي حكمته في وضعه المعيشي .. يتساءل عن مكانته ..
يري أنه مبخوس الحق ..

وبعضنا يري أحيانا في الإلتزام تضييعا لبعض مواهبه .. أو تضييقا علي لامحدودية الابداع فيه ..
وكأن الله حاشاه لا يعلم مدي امكاناته وقدراته ومواهبه ..
اطمئن يافتي .. واهمس للنفس "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير"
"ولا تزكوا أنفسكم هو اعلم بمن اتقي "
"ألم تر إلي الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء"

كم مرة في الحياة وجدت أحدهم يقترح عليك في تخصصك وهو لايفقه فيه شيئاً .. فوجدت نفسك تري الاقتراح والمساءلة إهانة .. ووجدت نفسك تدعوه أن يأتي هو ليفعلها .. بل ربما اعتذر الطبيب عن علاج المريض المتفيهق الذي يحشر أنفه ويحاكم علم الطبيب ..
ويحنا .. كم نفعل هذا مع الله كل يوم ..
حين نحاكم اقداره .. حين نقول لو ..؟؟ .. ولماذا ؟؟ .. وماذا لو يحدث كذا ..؟؟
حين نتفيهق ونتأله .. ونقترح علي قضاء الحكمة فينا .. ونعاتب العناية الربانية .. ونعترض علي الإرادة والمشيئة القدسية ..



إن ابليس يحاكم الحكمة .. ويساءل علم الله ..
وكأنه يعيد تقييم معايير الله بمفاهيمه المحدودة .. وتلك أيضا قد سربها لبعض بني آدم ..
تراهم يتألهون .. يتفلسفون .. يعملون عقولهم المحدودة في احتواء الحكمة اللامحدودة ..
ثم يحاكمونها .. يعترضون .. يقترحون .. يقيمون .. يرفعون لله معاييرهم ويحاكمون دينه وقضاءه وشريعته بها ..
والله وقرآنه ودينه .. يستدل به ولا يستدل عليه ..
يحكم ولا يُحَاكَم ... يزن ولا يوزن ..


ومن خطاياه ايضا .. الحكم .. تعيير الأشياء والأشخاص .. القولبة ..
تلك أيضا من سمات النفس الإبليسية .. الحكم علي الآخر .. محاكمته بقوانينك ..
قولبته في قالب ووضع ملصق عليه بالمقادير والسعرات ..
أن تجعل الآخرين كعبوات في ذهنك .. ذاك كذا وهذا كذا ..
"الله يحكم بينهم "
"ولا تقولوا لمن ألقي إليكم السلام لست مؤمنا............... كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم "

يتبع
"إلا أن يشاء الله"

الثلاثاء، 13 سبتمبر 2011

سورة الأعراف (الحلقة الثالثة) 4-9

الأعراف كما ذكرنا تقوم علي مرتكز واحد وهو عرض الفريقين .. والوقوف بالاطلاع المضيء بينهما .. ((حالة الأعراف))
وتتميز عن غيرها من السور ببضعة ميزات .. منها حالة الأممية .. والتركيز علي الجمعي أكثر من الفردي ..
فنجد فيها تكرار لكلمة أمة .. وقصص الأمم السابقة .. فهي سورة للمسار الجمعي اكثر من كونها سورة للمسار الفردي ..
هي سورة للتزكية الجمعية للأمة بأسرها .. التزكية الجمعية كحالة إيمانية تسري في الجموع لا بقصد التشريع المجتمعي ..
"
"وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون "
وذاك أحد محاور السورة .. كما ذكرنا من قبل .. التصور الإيماني في التاريخ .. في حياة الأمم وآجالها وأقدارها ..
تلك اية محورة إجمالية .. سيأتي تفصيلها في ذكر بعض تلك القري والأمم الهالكة ..

هو البأس الرباني يتسلل .. العقاب النهائي يدلف علي حين غفلة ..
تماما كغفلتهم المعنوية.. كغفلتهم عن آيات الله واستمرائهم للعصيان وألفتهم لحياة الدعة والخمول والروتين الدوار .. يأتيهم العذاب في احدي غفلتين .. غفلة الليل الإضطرارية لأجسامهم بالنوم .. 
وغفلة النهار الإرادية بالقيلولة ..

فلتحذر من طول الأمل .. والاغترار بحلم الله .. فعقاب الله من خواصه المباغتة .. وأنه لا يأتيك حين تنتظره فانتظاره دليل علي بعض الحق فيك ..
ولكن احذر ذاك الاستدراج .. ألا ينزل العذاب عليك بالعصيان .. فيخفت انتظارك حتي يتلاشي .. فتألف العصيان ..
وحينها فقط .. حين تغفل .. حين تسقط تحصنات استعدادتك .. وبقايا التوبة فيك ..
حينها فقط .. حين تنكشف مواطن الضعف فيك .. حين تكون مشكوفا تماما .. غافلا تماما .. حين تكون في أوج نجاحاتك ..

في أوج انسيابك في سنة الغفلة .
حينها ينزل العذاب ..


وربما ينزل حين لا ينفع نفس ايمانها .. مصحوبا بالغرغرة حين لا تنفع التوبة ...

"فما كان دعواهم إذا جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين "
هو اعتراف يحسم القضية .. اعتراف تم انتزاعه من المناطق المظلمة من النفوس .. من السراديب الللامأهولة ..
اتعراف خارج عن التنمقات والتجملات .. خارج عن استكبارهم .. خارج عن الهيئة والرسم والوصف والمكانة الاجتماعية ..
اعتراف حين يتعري الضعف البشري أمام العذاب الذي يناسبه ..
فمن خلقه يعلم جيدا كيف يعريه ..
فبأس الله يعرينا .. يكشفنا أمام أنفسنا ..
يسحق حججنا .. ومبرراتنا .. وتجملاتنا .. ومجاذبات الشهوة فينا ..
بأس الله يوقفنا أمام مرايا شفافة .. يضعنا علي موازين الحق ..
يجعلنا نحن الحكام بعد أن يمنحنا معياراً حقيقية ويسحق ماعداه من معاييرالزيف والخواء ..

بأس الله يجعلنا نعلم ما يستحق .. ومالا يستحق .. فما يستحق ليس سوي ما كان الحق من سماته (يستحق - حق ) .. ما يستحق ليس سوي ما كان حقيقياً في ذاته .. وليس من حقيقي سوي ما يبقي .. وليس ما يبقي سوي ما كان من الآخرة أو للآخرة ..

بأس الله يعرينا .. ويعري دنيانا ..
يمنحنا أكواداً ومفاتيح لأبواب الحيرة .. يعلمنا شفرات ما استغلق علينا من الأسئلة ..
فأحيانا تبقي كثير من الأسئلة معلقة .. حتي ينزل البلاء .. حينها فقط نتمكن من الإجابة ..
وحين يرفع البلاء نعود لننسي .. أو نتناسي ..
بأس الله يكشف الغطاء .. فتتجاوز ابصارنا حجاب المادة والغفلة وبريق الزيف .. إلي عمق الحقائق ..

اتدري ايها الإنسان ما أنت حقا؟؟ .. انظر إلي نفسك في عمق البلاء ..
اتود أن تعلم اجابات اسئلتك المعلقة .. لا تحاول الإجابة عليها برفاهية الغفلة .. إنما حاكمها بواقع البلاء ..

إن الإجابات الصحيحة .. لا تخرج إلا في البلاء ..
لكنها احيانا تخرج .. في البلاء الأخير .. حين لن تنفعك الإجابة ....

" فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين . فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين " 
كعادة الأعراف .. كمرتكزها  .. رسم الصورتين بحيادية .. وبمجرد النقل الكامل للصورة يحدث الحكم المنطقي .. فهو حكم دون حكم ..
بسؤال الأمة .. وسؤال الرسول .. حين انكشاف الزيف .. حين لا سبيل للكذب .. حين تتعري الحجج .. وقتها يحصل الحكم العدل .. ويرضي به كل الأطراف ..
فلن تسمع يوما عن رجل من أهل النار ينادي بأنه كان يستحق الجنة .
تقف حالة الأعراف بين الرسول وأمته ..
بسؤال الطرفين .. بإكمال الصورة .. بالإجابة علي التساؤلات العالقة ..
ليس سؤال عن جهل حاشاه .. وليس سؤالا استفساريا استعلاميا .. إنما سؤال اقامة الحجة .. سؤال رسم السورة وتحديد معالم القصة علي ألسنة معايشيها أنفسهم .. واخراج الحكم منهم ذاتهم ..
هو سؤال عن علم وحضور .. بعلم .. وما كنا غائبين ..

" والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون . ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون"
وداعا موازين الدنيا المقلوبة .. وداعا معايير الخواء والإدعاء .. وداعا للغثاء الثقيل .. والزبد المتراكم ..
هناك الميزان الحق .. حيث ساقي ابن مسعود أثقل من أحد .. وحيث الرجل العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة كما في الحديث ....
هناك حيث درهم اثقل من الف درهم .. وحيث كلمة اثقل من سبعين سنة .. وحيث ركعة ارجح من ألف ركعة ..
هناك حيث المعنوي يتجسم وزنا ..
حيث يوزن الصدق ..
حيث إيمان ابي بكر يرجح إيمان أمة بأسره .. بم ؟؟ .. بشيء وقر في صدره ..
حيث يوزن شيء ابي بكر .. ؟؟ .. حيث جناح بعوضة اثقل من دنيانا .. كما في الحديث ..
حيث كلمة صدق ارجح من كتب مجلدة فاخرة الطباعة .. وحيث حرف لفظ بصدق ارجح من الاف الخطب الحنجرية الرنانة ..
حيث أعمال كالجبال لا تزن الذرة يومئذ .. حين تجعل هباءا منثوراً .. لأناس إذا خلوا بالمحارم انتهكوها ..

حيث الصدق هو العملة الرائجة .. هو الورقة الفائزة ...
حيث القلوب هي المعيار لا أجساد وحركات ..
هو الوزن الحق .. والفوز الحق .. والخسران الحق ..
المفلح من أتي بالأثقل صدقاً .. والخاسر هو ذاك الذي ظلم نفسه بالاستكبار عن الحق والارتماء في ركام الزيف الفارغ ..

 هل اعددت في دواخلك شيء منك قد يوزن ..؟؟ .. هل لديك من نفسك ما قد يرجح ؟؟
هلا حاسبت دنياك بميزان الآخرة لعلك تحمل بضعة جرامات صدق تنجو بهم هناك
.................... 

سورة الأعراف(الحلقة الثانية) 34-36

هي سورة الأعراف .. سورة تسري في ىياتها نكهة موحدة .. نكهة الأعراف .. سمة موحدة .. موضوع موحد .. ومرتكز واحد تقوم عليه السورة ..
هذا المرتكز يتجلي في عنوانها .. الأعراف ..
فما الأعراف إلا كيان ما .. بين الجنة والنار .. بين المآل النهائي لأهل البياض .. وأهل الظلام ..
الأعراف هو مقتطع من الدنيا .. أنموذج مصغر .. ماكيت للدنيا .. فما حياتنا الدنيا إلا تلك التمزيقة .. الدوامة .. بين البياض والسواد ..
بل الإنسان نفسه .. يحمل في نفسه الأعراف .. حين يلقي نظره إلي الحق ويصرف نظره تلقاء الباطل .. بين لمة الملك ووسواس الشيطان ..
سورة الأعراف .. هي تلك المقارنة المعقودة طوال السورة بين المتضادين . بين الزوجين .. بين الحق والباطل .. بين التحريم والحل .. بين الأمر والنهي ..
بتدقيق النظر في السورة تجدها تحمل هذا الرابط وهذا التسلسل ,,
فمثلا إن الله لا يأمر بالفحشاء .. تعقبها .. أمر ربي بالقسط ..
وقل من حرم زينة الله .. يعقبها .. إنما حرم ربي الفواحش ..
فمن اتقي واصلح .. يعقبها .. والذين كذبوا ..
مناطها .. فريقاً هدي .. وفريقا حق عليه الضلالة ..
إن سورة الأعراف .. هي أعراف القرآن .. هي التي تتجلي فيها الثنائية .. الوقوف علي اعتاب الطريقين بالتأمل .. وسنذكر ذلك بالتفصيل أثناء متابعة أيات السورة في سريانها ..
تري من أولئك الواقفين علي الأعراف ..  ولماذا لم ينتموا لأي الفريقين ..
وهل هناك منطقة وسطي بين البياض والسواد ..
لكي يتضح موقف أولئك الأعرافيين .. ندلف إلي التصوير القرآني الللازمني .. لحقبة ما من حقب الآخرة ..

" ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون "
يرتكز التصور الإسلامي للتاريخ علي فكرة أن الأمم كالأفراد .. لها أقدارها الخاصة ..
لها آجالها .. تقديرات الله فيها ..
ليس قدر الأمم نتاج مجموع أقدار أفرادها .. كما ليس تشريعاتها مجموع الأوامر والنواهي الفردية ..
إنما للأمم أقدار متباينة ومتداخلة مع مقدرات اللأفراد .. وتشريعات خاصة منفصلة عن التشريعات الفردية ..
فنسمع عن فروض الكفايات .. وفرض العين .. وفرض الجمع ..

التصور الإسلامي يري الأمة كشخص اعتباري بالمصطلح القانوني .. يقوم ويسقط .. وينجح ويفشل .. ويعبد .. ويتقي ويعصي ..
يحل عليه السخط .. وينال الرضا .. شخص له عيوب وميزات .. نجاحات وفضاءل .. كما له هفوات وفجرات ..
شخص اعتباري لابد له من تربية جمعية ربانية .. وتزكية خاصة تقوم علي ارادته هو ..
هكذا ينظر التصور الإسلامي إلي التاريخ وإلي الأمم ..
وهكذا يحاكم الحضارات .. بمفهوم الشخص الإعتباري ..
الحضارات كالشخوص .. لا خير محض ولا شر محض .. بما فيها الحضارة الإسلامية والأمة الإسلامية القديمة ..

كثير منا تنتابه الشكوك حين ينظر في تاريخ الدولة الإسلامية .. شبهات ترتمي في عقله .. لأنه لم يحاكم التاريخ الإسلامي بالتصور الإسلامي ذاته ..
لم يحاكمه بمفهوم الشخصنة الإعتبارية ..
بمفهوم السيرة الذاتية .. تماما كما ننظر إلي تاريخ الأفراد .. فنري يد الله تعمل .. ترفع وتضع .. بحكمة ..

إن حكمة الله لم تغب يوما عن الحدث التاريخي .. فلم يحدث في كون الله ما هو خارج عن مشيئته الكونية .. وإرادته التدبيرية .. حتي وإن لم يكن في معيار الحب والبغض .. والرضا والسخط موافقا لرضاه .. ولكنه لم يخرج يوما عن مشيئته وحكمته ...

الأمم كالأفراد .. إذا جاء أجلها .. لن ينفعها فكاك وفرار .. لن ينفعها مداواة وانعاش .. لن ينفعها إيمانها إن لم تكن أمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ..
لن تقدم ولن تؤخر ..
الأمم كالأفراد .. قد تمرض قبل الموت .. وقد تتوعك .. وقد تشيب ..
تفتر وتشتر .. تشب وتغفل ..
الأمم كالأفراد .. تأتيها رسائل إيقاظ وهتافات هزة ...
الأمم كالأفراد .. تنزل بها بلاءات استرجاع .. فمنها من يفيق .. ومنها من يستمر في غفلته ..
الأمم كالأفراد لها شهواتها ومحارمها .. بل لها شيطانها الموسوس .. وملاكها السابح بالخير محفز ..
ذاك  هو التصور الإسلامي عن الأمم والحضارات .. والتاريخ ..

"يابني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقي واصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون "

هو نداء للأمة الكبري .. أمة الإنسان .. فالإنسانية أمة في ذاتها .. أيضا لها أقدارها .. ((إلا أمم أمثالكم ))
هو نداء تذكيري بوحدة النفس الإنسانية .. وحدة المصدر .. وحدة الأب .. وحدة الشهوة والصفاء معا .. ناداهم بآدم .. الذي قد ذكر قصته مع ابليس منذ قليل .. وكأنه يحيل الذهن إلي أنكم أبناء هذه القصة .. وهذا الصراع ..
أنكم ابناء النسيان والتوبة .. ابناء الاغترار بالمقاسمة الشيطانية للثمرة المحرمة .. تغترون دائما بمن سبقكم في القضمة .. فتظنون أن بقضمته الأمان .. فتسيرون علي خطاه .. حتي تتبعونه هبوطه محسورا ..

هو النداء الثالث لبني آدم بذات الصيغة في السورة .. فالسورة تقوم علي اظهار الفريقين فريق النور وفريق الظلامية .. وتضعك بحيادية علي رسم صورة كاملة لمعتقداتهم وعيشهم ومآلهم .. تصنع لك الإختيار المضيئ .. اختيارا عن معرفة كاملة ..
تضعك أمام النجدين .. نجد الشكر  .. ونجد الكفر .. (وهديناه النجدين .. إما شاكرا وإما كفورا)
ولهذا فقد اغرقت في التاصيل .. فعمدت إلي قدم الخليقة .. واصل الصراع .. إلي وقت ولادة الظلام الإبليسي المستكبر علي الأمر.. وصراعه مع قوي النور الساجدة ائتماراً وطاعة .. والواقف بينهما آدم كأعراف حديثة التشكل ..
  بعد النداء الأول .. يابني آدم لا يفتننكم الشيطان ..  نداء تحذيري من طريق الظلام وقائده .. يأتي نداء تحفيزي لاتباع قادة طريق النور ... يابني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ..
وكعادة الأعراف .. تضعك في الاختيار .. ترسم لك الطريقين دون أن تامرك بصراحة اتباع ايهما ..
فنجد تصميم الآية لا يحوي أمرا بالاتباع ..
إما يأتينكم رسل .. أي حين ياتيكم قادة النور المصلحين .. من الأنبياء والمرسلين .. تكونون قسمين  .. ولكم الاختيار ..
قسم من اتقي واصلح ..  ومآله لا خوف ولا حزن ..
وقسم من كذب واستكبر .. ومآله النار بالخلود ..

اتقي واصلح .. التصور الإسلامي يمتاز عن باقي التصورات البيضاء الساذجة .. اللامكتملة .. انه لا يدعو إلي تزكية النفس وحسب .. لايدعو إلي تقوي فردية وصلاح أناني .. إنما يستوجب انطلاق من هذا الصلاح نحو الإصلاح .. من التقوي نحو التغيير المجتمعي .. من التشريع الفردي نحو التشريع الأممي .. من السيرة الفردية نحو السيرة الأممية ..

ولا خوف ولا حزن .. فتلك هي مرتكزات الاتقاء البشري .. البشر يبحثون عن رفع الخوف ورفع الحزن .. متطلباتهم الرئيسية الأمان والسعادة  .. نفي الخوف ونفي الحزن  ..
والله يكفلها لأولئك المتقين المصلحين .. ولاشيء في الكون يمنحك تلكما معا .. سوي الارتماء في التصور الإسلامي النوراني والإصلاح من خلال المعسكر الإسلامي الأبيض ..
إلي أولئك الباحثين عن الآمان .. المتلمسين للسعادة ..  لا سبيل لكم سوي التقوي الفردية .. والإصلاح الجمعي ..

كذبوا بآياتنا .. واستكبروا عنها ..  هما طريقين للزيغ والضلال .. طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين ..  لاثالث لهما .. طريق المخدوعين والمخادعين ..  طريق الأعمي .. وطريق من اغلق عينيه أمام النور بكامل أرادته ..
طريق من كذب بالآية لسواد في قلبه .. او لشهوة أعمته .. او لظن عقلي فارغ .. أو سفسطة خاوية من المعني ..
وطريق من رآها .. واستيقنت بها نفسه .. لكنه استكبر عنها .. وتلبس أوشحة الأباليس .. وقال أنا خير ..

وكلاهما كفرعي نهر الظلام (التكذيب والاستكبار ) يجتمعان في المصب النهائي .. النار خالداً ...

يتبع .......