الثلاثاء، 28 ديسمبر 2010

الفاتحة 2


بسم الله الرحمن الرحيم

لازلنا في فلك الفاتحة ندور .. ولاعجب إن ظللنا في دوران أزلي .. فإن كان ما وراء الباب لا نهائي الاسرار .. فلابد أن يتناسب الباب مع ما يخفيه  ..
ولاعجب أن تكون الوطأة المعنوية للمفتاح ملائمة لوطأة النص الآتي ..

المثني الثاني : الحمد لله رب العالمين
مثنويته :
الجناح الأول: الحمد هي حالة البدء وهي في ذات الوقت محطة الوصول .. الجناح الثاني: ليس الحمد إلا انبثاق تحقق العبد من عبوديته .. وإعلانه ويقينه ربوبية المولي ..

الحمد ..
لولا نزول تلك النصوص الربانية لما كان لتلك الكلمة توصيف لغوي واضح .. فالحمد كلمة نشئت مع النبوة ..
كلمة تضم الشكر وتتعداه .. وتضم الامتنان وتتعداه .. وتضم الرضا وتتعداه ..
لذا فلم يصلح إلا أن تكون لفظة سماوية لتلائم ذاك الحمل المعنوي الثقيل ..
الامتنان حالة تقدير النعمة من المنعم .. والشكر حالة إعلان هذا التقدير ..
والرضا حالة تسليم وسكون للمقدور والمحيط بلا تشنج أو تافف وهي تناسب أكثر البلاء ..
والحمد مناط ذلك كله .. يحوي ذاك جميعه ويتجاوزه ..  
فلا امتنان يناسب البلاء .. ومجرد الرضا يبخس العطاء ..
ولكن الحمد وحده يوافق العطاء والمنع .. والبسط والقبض .. الرخاء والشدة ..

الحمد هو حالة العبد في ثناءه علي عطية المولي خيرها وشرها ..  "أو بمعني أدق ظاهرية شرها" فلا شر منه يخرج .. إنما هو خير مقنع ..
ولو ترك المولي لكل منا ثناءه .. لاختلفت الموازين .. فذاك اديب يبالغ في الثناء ويبدع قصائد المديح .. وذاك فقير يتلعثم ولا يعلم كيفية التعبير ..
والثناء مدخل المداخل للمحبوب .. لذا فيختصر لنا المولي الطريق .. ويوحد الألسنة في صيغة قدسية لا مثيل لها .. فينزل من علياءه صيغة الحمد .. الحمد لله رب العالمين .. وصيغة الثناء .. سبحان ..

ولا عجب كذلك أن يكون اشتقاق اسم نبي تلك الرسالة من ذات المصدر .. محمد .. وكان ذاك اسماً غريباً علي العرب ..
فالحمد بدء القرآن .. والحمد مادة اسم النبي .. محمد .. وأحمد .. صلي الله عليه وسلم ..

الحمد هي كلمة البدء .. وحالة البدء .. وهي مختصر السعادة والحل الجذري لمشكلة الواقع البشري بأكمله ..
الحمد هو سر الأسرار .. الحلقة المفقودة لشفرة سكون الأرواح المضطربة ..

الحمد حالة..  والوصول إلي صيغتها .. والتعرف علي معادلتها هو الفوز كل الفوز ..
فالحمد محطة انطلاق .. وفي ذات الوقت المقصد والمنزل ..
فلولا لحظات من الحمد تمر علي الأرواح لما قدرنا أن نطيق الدنيا يوماً واحداً ... لحظات يشعر فيها المرء بالإمتنان لأشياء عنده لا تقدر بمعيار المادة .. ويبدأ في النظر إلي الوجه الآخر للأشياء التي يكرهها ليري وجهها المنير .. ويشم رائحتها الخفية .. ويري يد العناية في خفايا المقدورات التي اعتبرها يوماً شروراً ..
حينها تتفتح عليه كوة النور ... وتتنزل عليه لذة السكون .. ويمسح علي قلبه بمسحات القديسين .. ويرتدي عباءات الصديقين .. ويشعر لأول مرة بلمسات الهواء المحيط لوجنتيه رابتاً .. وعبير أنفاسه تدلف إلي صدره محملة بروائح طمأنينة أبدية ..

وهنا يلحقها بلفلظة الربوبية .. الرب هو الخالق الرازق المعتني .. الرب هو المالك ... الرب هو المنشئ المربي ..
فحينما تمتزج حالة الحمد الخارجة من ذات المخلوق .. بحقيقة الربوبية ووجود العناية .. واليقين بقيومية المولي .. واطلاعه علي أدق تفاصيل الحياة .. حينها تمتزج المثنوية محدثة التفاعل الأضخم علي نطاق الكيان البشري .. تفاعل ماله سوي نتيجة واحدة وهي الانسجام .. الطمأنينة .. الإتساق مع الذات ومع الكون .. الأمان .. راحة البال .. السكينة .. 
حينها .. فقط .. يعثر علي كل تلك الكنوز البشرية المفقودة .. المفتقدة ..
حينها فقط .. يصبح لوجودنا معني .. ولسعينا مغزي .. ولطريقنا منتهي .. ولمقاصدنا وجهة .. ولشكوكنا خلاصاً .. ولرعشتنا دفئاً .. ولصراخنا مسمعاً ..

المثنوية الثالثة : الرحمن الرحيم
الكون قائم علي الرحمة .. سائر بالرحمة .. مكفول بالرحمة ..
الكون بدفتيه .. والرحمة بدفتيها ..
دفتي الكون الدنيا والآخرة .. ودفتي الرحمة .. "رحيمية .. رحمانية " ..
  
عجيبة هي صفات الجمال القدسي .. رحيم رحمان .. غفور وغافر وغفار ..
وكأنه يحيل الشكوك إلي تنوعية الصفات .. يمحي الارتياب باتساع المدي المتحقق بدفتي الصفة ..

نضرب لذاك مثالاً .. المذنب يحتاج إلي مدي أوسع من المغفرة .. فليس المذنب التائب المستغفر إلا رجل قد اسرف علي نفسه في اتجاهين أفقي ورأسي ..
فهو كثير الذنوب متعددها ..
وفي ذات الوقت غائص إلي عمق الذنب .... خائض في هاوية العصيان ..
فالذنب مجال ثنائي الأبعاد .. كم .. وكيف ..
فليست كل الذنوب في الوطأة سواء .. وليست تعداد الذنوب لكل كيان بشري متكافئ ..
لذا فهو يحتج بعدين لصفة المغفرة .. غفار وغفور ..

والكون كذلك يحتاج بعدين لصفة الرحمة .. رحمن ورحيم ..
يحتاج ابعاد كمية لا تعد في الإحصاء .. وأبعاد كيفية لا تسبر أغوار أعماقها واتساعاتها ..
لذا وحتي لا يتسرب الشك .. ولكي تتنزل اللمسات القدسية الحانية علي المخلوق القلق في سبيله الدنيوي الحائر المضطرب .. تتنزل صيغ الرحمة .. لتنقل إلي المخلوق لاشعورياً اتساعاً لا متناه للرحمة .. كذلك تعددية لا متناهية لأبعادها ..  حتي لايبقي مجالاً لريبة ..

يتبع ........................

ليست هناك تعليقات: