الاثنين، 9 أغسطس 2010

الأعراف .. ربع قال الملأ .. اللآيات 94- 95

ما كان لغير وجه الله يدفن ................

" وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون "
هو النبي يأتي ليقيم التصور القويم ... ويشيد سبل ادراك مغايرة .. ويصطب سوفت وير عقلي مختلف .. يجعل ادراك الواقع ليس كما كان من قبل .. يجعلك تري ما لا يراه الآخرون ..
تلمح في عمق المآساة .. بصيص الأنوار .. وتستشف الغايات المستترة وراء أقنعة البؤس المؤقت ..
الارتماء أمام العتبة القدسية ... والالتجاء إلي كنف الرحمن .. ورفع رايات الضراعة .. غاية خافتة وراء البلاء ..
تحتاج تربية نبوية لتستطيع التقاطها ..

الغاية .. التضرع .. الضراعة ..
التضرع .. اشتقاق جميل من الضرع .. وهو الثدي .. كطفل حائر لا يقوي علي الطلب .. ولا يتقن السعي .. ولا يعرف فنون الكلام .. ولا يدري من الاشتغاثة سوي نبرة بكاء أما الضرع ..
يرتمي للضرع .. الذي يمثل له الحياة .. فهو الطعام والشراب والسكن .. هكذا الضرع للطفل .. حاجات الكون بأسره ..

وهكذا ارتماء الضريع .. علي جنبات المناجاة ..  لايري خلاصاً في سوي الكنف الرباني .. ولايلمح نجاة في غير المناجاة ..

وهكذا أزيلت تاء .. يتضرعون ..  وادغمت في الضاد ..
وهكذا تثير في النفس صورة الضرع .. كتقريب للحمل المعنوي للضراعة الحقيقية ..
وايحاء تكنيكي صوتي بثقل الضاد وقوتها النغمية عن التاء إلي عمق التضرع .. وشدته .. وطوله ..  أيضاً تحقيقاً لمطلوبه المعنوي ...

سأل أحدهم الله أن يرفع عنه البلاء .. فألهمه الله : "علمك البلاء الالتجاء .. فلا يرفع إلا حين يصير اللجوء لك عادة "
والفارق بين الالتجاء .. واللجوء .. أن الإلتجاء اضطراري يحمله البلاء .. واللجوء اختياري يحمله الارتماء الإرادي في كنف القدرة ..

فالبلاء يعلم الإلتجاء .. والإلتجاء يعلم اللجوء .. 

وكان من دعاء بعض الصالحين "اللهم اجعلنا عبيد احسان ولا تجعلنا عبيد ابتلاء "

والبلاء صور وأنواع .. حسب توافقات نفس الغافل ... وحسب متطلبات الإفاقة ..
فأحياناً تأخذنا الغفلة بعيداً .. ونتناسي حقيقة وجودنا كعبيد .. ونكون بفضل المنة ممن أرادهم الله لنفسه .. فيبعث إلينا برسالات الإفاقة .. تتفاوت درجات شدتها .. علي سلم تدريجي .. 
فمنا من يحتاج إلي مرض وسقم ليلجأ إلي الله .. ومنهم من يزيده المرض سخطاً ويكون عليه فتنة ..
ومنا من يحتاج إلي خلل في راحة البال .. وانسجامية السكون .. والطمأنينة .. فيعرف حينها القدر الحقيقي للدنيا .. فيلجأ ..

فهناك بلاءات الكيان الإنساني الداخلي .. البأساء ..
وهناك بلااءات الخارج المادية والموقفية .. الضراء ..


والغاية النهائية التضرع ..
فابشر يا صاحب البلاءات .. فربما كنت عنده عزيزأً .. فلم تهن عليه ولم يتركك لنفسك والشيطان ..
 وكأنه يرغمك بالبلاء علي العودة ..
وكأنه يحملك إلي الجنة رغماً عنه .. كطفل أحمق يهرب من نظافة الاستحمام ..

ألا تري في البلاء عطفاً ..؟؟

"ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتي عفوا وقالوا قد مس ءاباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون "
لم يزل التشكيل الرباني للتصور ..وتغيير النظرة لدقائق الحياة .. يتواصل .. 
وهنا يضع المولي فارق بين التصورين ..
التصور الإيماني الأبيض .. الذي يري في البلاءات رحمة .. واضطرار إلي الضراعة .. 
ثم يري في السراء ابتلاءاً بالشكر .. وجائزة للصبر .. ونفحة من نفحات التأييد .. 

والتصور الظلامي المتوارث .. الذي لايري في البأساء والسراء إلا قوانين عمياء للزمن .. ونمط عشوائي للحياة .. 
وكما يقولون ..
bad things happen ... and good things happen 
هكذا .. الأمر يحدث .. وقد حدث للأقدمين وسيظل يحدث .. 
كما يقول النبي فيهم "كالحمار لا يدري فيم عقلوه ولا فيم أرسلوه "
لا يعلمون الحكمة في ابتلاءات تمر بهم .. ولا يقرآون الرسائل في المواقف الحياتية .. ويتعامون عن المغزي من التقديرات الربانية ..
هكذا هي الكيانات الخربة .. التي تجردت من التصور الإيماني .. ولم تصطبغ حياتها .. ونظرتها الكونية بصبغة الله والنبوة ..

وهكذا نحن أحياناً بعد رفع البلاء .. نقول "قد ذهب السيئات عني " 
نعود للاسترسال في الغي .. وكأننا كالبهائم لا نسير علي طريق الخير إلا بكرباج البلاء ..

عفوا : لها تفسيران .. العفو من الكثرة كما يقول ابن كثير .. بمعني أنهم حين تكاثروا وانفتحت عليهم السراء .. وابواب الراحة والرفاهية .. تناسوا قديم ضراعاتهم .. وشدة البلاءات .. واغتروا بحلم الله ثانية .. وعادوا يؤولون قديم البلاء وقديم عهودهم بالتقوي .. إلي قانون الحياة .. وطبيعة الدينا المتقلبة ..
هو التلاهي بالكثرة وانفتاح الأبواب ..
والتفسير الثاني : بمعني العفو .. اي النسيان .. وكأن شيئاً لم يحدث .. هو التناسي ..
كما في عفا الله عما سلف ..

وحقاً الأمر لا يتجاوز احدي المعنيين .. هكذا نحن بعد البلاءات بين التناسي .. والتلاهي ...
  
فأخناهم بغتة وهم لا يشعرون ..
وفي نقطة ما علي صفحة الزمان .. تتلاشي أرصدة الخير .. ويستفرغ البشر فرصهم للعودة .. ويصل عداد ابتلاءات الإفاقة إلي نهايته ..
ولا عودة .
فلم يبق إلا الأشد ..
الأخذ بغتة ..

وهكذا هو الأخذ الرباني .. قاصم .. صارم .. ومن طبيعته .. أنه يأتي فجأة ..
في قمة النجاح .. وأوج السطوة .. وعلي عروش السيطرة .. ومن اللاشيء ..
ينزل العذاب ,,
دون شعور بمقدماته .. ودون تنبؤ بنزوله .. ودون ارهاصات لقدومه .. يأتي .. يخرج من اللاشيء .. ليغير كل شيء ..
حيث لا سبيل للعودة ..
ولا تنفع هنا الضراعة ..

يتبع ......

ليست هناك تعليقات: